لماذا ينتحر (العشرينيون) في الناصرية؟
مع مستهل هذا العام الجديد، والذي لا زالت الكثير من صور الاحتفالات بمقدمه السعيد باقية على واجهات المحال التجارية وداخل الأحياء السكنية وكثير من الأبنية الأخرى، أطل علينا الإعلام المحلي في مدينة الناصرية بأخبار مشؤومة. يبلّغنا عن نسبة غير مسبوقة لحالات الانتحار في المدينة. ومن يومه الأول وحتى يوم إعلان الخبر في السابع عشر من كانون الثاني، سجلت جهات أمنية معنية ” رقما قياسا مرعبا” على حد قولهم هم، وأضاف هذا المصدر: إن “محافظة ذي قار ومنذ مطلع العام الحالي 2022 سجلت 12 حالة انتحار خلال 17 يوماً فقط، بعضها تم والبعض الآخر لم يفلح اصحابها بإتمام مهمة انتحارهم”، موضحاً أن “غالبية الذين انتحروا كانت أعمارهم في العشرينيات”. وبعد ثلاثة أيام فقط أفاد مصدر أمني آخر بأن: ” مراهق أطلق النار على نفسه في منطقة الرأس بواسطة مسدس حكومي يعود إلى والده وهو منتسب في شرطة ذي قار….”. أي إن نسبة الانتحار تقريباً، واحد يومياً.
دراسات علمية واجتماعية لا حصر لها بحثت وناقشت ظاهرة الانتحار، على المستوى العالمي، وفي العراق خصوصاً في الزمن الحالي تحت ظل سلطة هذا النظام الحاكم. خرجت بتعاريف متعددة للانتحار ولأسبابه، ويمكن إجمال ما مشترك في جميع التعاريف الواردة بهذه الدراسات، بأن الانتحار هو قتل النفس أي أن يقوم الإنسان بوضع حدٍ لحياته، ولأسباب نفسية واجتماعية عديدة دفعت المنتحرين للاقتناع كلياً بأن حياتهم لا تستحق الاستمرار، ويقف الاكتئاب في مقدمتها. والانتحار قرار صعب، ولكن ما هو الأصعب منه؟
وبعيداً عن الخوض في مناقشة تفاصيل علاقة الاكتئاب بالانتحار، ما نريد أن نشير إليه هنا حصراً هو تفشي ظاهرة الانتحار وتزايدها اليومي في مدينة الناصرية حيث غدت ظاهرة ملحوظة وتنذر بالخطر على سلامة المجتمع، وعلى الرغم مما تشير إليه التقارير الحكومية والتي يمكن؛ بل ولابد، أن تخفف من وقعها ومن أعداد المنتحرين الحقيقية تنصلاً من المسؤولية التي تقع على عاتقها أمام المجتمع، فأن هذه الظاهرة لا يصح ان ننظر إليها كظاهرة من ظواهر المجتمع المؤسفة فحسب، بل يجب الوقوف عندها وقفة ناقد ومطالبة عاجلة لوضع حدٍ ناجعٍ لها، ولاسيما إن المعنيين هم شباب في العشرينات، فلماذا يقتل أبنائنا أنفسهم وهم لما يزالون في زهرة شبابهم؟؟
أحد التعريفات لمشكلة الانتحار تراه كونه ” حلّ دائم لمشكلة مؤقّتة”. وهل هو كذلك حقاً، أي إنه جاء نتيجة لمشكلة مؤقتة؟؟
عندما عجز معظم هذا الجيل الذي يعيش حالياً تحت رحمة النظام الحاكم، ولمدة قاربت العقدين من الزمن، على الحصول على أبسط متطلبات الحياة، وانغلقت أمامه كل سبل الحياة الكريمة، التي يتطلع إليها أي إنسان في أي مكان في العالم، كحق مرادف للحياة ورفاهها والتنعم بمقوماتها الأساسية. خلّفت في نفوسهم مرارة لا يشعر بها ويدرك نتائجها إلا هم.
النظام الحاكم في مجمله، غريب عن المجتمع العراقي وإن كان كما يصفونه ديمقراطي أو تعددي وغير ذلك، فأن الوقائع تكشف بلا لبس فيه حقائق أخرى غير هذا الوصف المغرض.
تكشف لكل فاقد البصر والبصيرة، إنه نظام يُعد كونه ليست سوى مصدر لصناعة البؤس، والبؤس الشامل، بكل ما تحمل هذه المفردة من معنى. منذ تأسيس الامريكيون والمستفيدون من وجودهم في العراق مع بداية الاحتلال، قاعدة وطريقة الحكم القائمة الآن، تحالف جميعهم على مبدأ واحد، وهو التفنن في السلب ونهب المال العام، أي نهب ثروة ومصدر معيشة المجتمع. وترك الملايين تحت طائلة العوز وظنك المعيشة غير الكافية، بلا أدنى شعور من مسؤولية ما أو وازع من ضمير. تركوا المجتمع وجماهير الشعب بلا خدمات من أبسط حق مثل الكهرباء والماء الصالح لشرب البشر، ونقص مخيف بالخدمات الصحية التي يؤدي نقصها يومياً إلى التسبب بالوفيات وتعقد الامراض وصعوبة شفائها إن لم نقل استحالتها. والتعليم الفاشل والذي أصبح مصنع لأنواع من الأمية لا ينفع معها أي تقويم، والوساطات والمحسوبيات الفئوية والحزبية في منح الشهادات والدرجات التدريسية. والفشل الأمني الداخلي والخارجي بوجه عصابات داعش وغيرها من الإرهابيين الذين يعيثون بأمن وحياة الأبرياء. والقمع الوحشي للمعارضين والمحتجين على اوضاعهم المزرية بالقتل والخطف والتهديد والحجز، كما شاهدنا من مجازر بحق المتظاهرين في انتفاضة اكتوبر، وتداعياتها المتواصلة حتى الآن.
إن أردنا أن نعدد ونسهب في تفاصيل أدران هذا النظام ضد الجماهير والمجتمع، سوف لا يسعه مثل هذا الحيز على الاطلاق، ويمكن أن نحتاج إلى مصنف ومساحة لها بداية وليس لها نهاية.
إن معضلة “العشرينيين” والجزء منهم الذي خاب واكفهرت حياتهم، كان من سوء الصدف، إنهم قد ولدوا وترعرعوا إبان حكم هذه الجماعة. وقد وجدوا أرضا مجدبة لا تصلح للعيش ولا تمنح الحياة، وجدوا أنفسهم يعيشون وترنوا أنظارهم إلى عالم مشرق يحققون فيه غنى ورفاه الحياة السهلة، وتنفيذ احلامهم الوردية، لكنهم كانوا قد واجهوا واقعا قاسيا قسوة قلوب رجال الدين وأحزاب الإسلام السياسي وتخلفهم وعقائدهم التي لا تدعو لأي نوع من أنواع السعادة، ناهيك عن شراذم وعصابات الآخرين تحت شتى التسميات الفئوية والمناطقية. استمرت مطالب هذا الجيل المحروم بالمطالب من ضمن المطالب الاجتماعية العديدة الأخرى، دون جدوى ودون أمل حقيقي تطمأن نفوسهم إليه ولهذا لم يعد الانتحار حل لمشكلة مؤقتة، إن المشكلة مستمرة ولا فكاك لها إلا بقلع هذا النظام من جذوره كما تستأصل الشأفة من خف البعير. هذا النظام الكالح لا يُبشر إلا بفناء الحياة والدليل ما يقولنه هم بإعلامهم مدعين الأسف على ضياع أعمار الشباب العشرينيين، الذين وجدوا إن الحياة مع هذا النظام أقسى من الموت للأسف.
القضاء على جيل كامل من الشبان، بسبب سياسات هذا النظام، لا يختلف في ظاهره عن الإبادة الجماعية، التي تقوم بها أنظمة استبدادية ضد جماعة معينة من البشر بقصد محوهم وتدميرهم كلياً. وعلى مر التاريخ ارتكبت مجازر مرعبة بحق شعوب وجماعات بشرية بالكامل، والتسبب بهذا الشكل من إرغام الشبان على قتل انفسهم بهذه الطريقة المؤلمة وهذه الاعداد الكبيرة واليومية، قد تعدى كونه انتحار، إنه انتحار جماعي وإبادة جيل من المفترض أن يتمتع بالحياة ويزدهر معهم المستقبل.