مات دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي في عهد جورج دبيلو بوش عن عمر يناهز ال 88عاما دون ان يحاكم على الجرائم التي اقترفها وأيضا دون أي مسائلة عن التسبب في اخفاقات هائلة للإمبراطورية الامريكية. ان عدم تعرضه للمسائلة ومرور وفاته دون أي ضجة لها دلالات عديدة اهمها وحشية النظام الرأسمالي وكون أمريكا امبراطورية في مرحلة الافول. لم يكن دونالد رامسفيلد مجرم حرب من الطراز الأول فحسب، بل كان ايضا واحدا من أكثر قادة البرجوازية الأمريكية حماقة. ان الفرق الوحيد بين دونالد رامسفيلد وجنرالات هتلر هو ان أمريكا لم تخسر الحرب في مواجهة عسكرية.
يعتبر دونالد رامسفيلد أحد أكبر مجرمي الحرب والمروجين لعسكرة العالم ولاستخدام القوة في تاريخ النظام الرأسمالي. ففي المرة الأولى التي أصبح رامسفيلد وزيرا للدفاع تحت إدارة جيرالد فورد عمل على تقويض المفاوضات مع الاتحاد السوفيتي على خفض الأسلحة النووية وايد بناء أنظمة جديدة من الاسلحة مثل صواريخ كروز وقاصفة بي1. كما أشرف على استبدال جيش يعتمد على التجنيد العسكري الاجباري بقوات مسلحة تعتمد على الالتحاق والتجنيد الطوعي مما يجعل الجيش مؤسسة قتل محترفة منفصلة عن السكان وبعيدة عن الضغوطات الجماهيرية.
كان رامسفيلد قبل الالتحاق بإدارة جورج بوش كوزير دفاع عضو في مركز أبحاث للمحافظين الجدد يسمى “مشروع نحو قرن امريكي جديد”. كان هذا المركز يرى انه في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، يمكن لأمريكا ان تضمن مصالحها من خلال استخدام القوة العسكرية. وقد ضغط هذا المركز حتى قبل هجمات 11 سبتمبر من اجل التدخل العسكري وتغير النظام في العراق من اجل ضمان ” نظام أمنى عالمي صديق بشكل فريد للمبادئ والازدهار الأمريكي”.
التحق رامسفيلد وتسعة من المحافظين الجدد الموقعين على البيان التأسيسي ل” المشروع نحو قرن امريكي جديد” بإدارة جورج بوش الابن بما فيهم ديك تشيني نائب الرئيس ونائب وزير الدفاع بول ووللفويتز. جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتقدم ذريعة لتنفيذ الحروب على أفغانستان والعراق ضمن خطة لتعزيز مكانة أمريكا كقائدة للعالم من خلال استخدام القوة العسكرية. لقد كان رامسفيلد مدافع رئيسي عن هذه الحروب ومن واضعي استراتيجيتها. وكان من أبرز المروجين للأكاذيب من اجل تبرير تلك الحروب مثل وجود ” أسلحة الدمار الشامل” و ” العلاقة بين النظام العراقي والقاعدة”.
ان نتائج السياسات التي روج لها رامسفيلد كانت كارثية. فحسب المؤسسات البرجوازية نفسها بلغ عدد الذين قتلوا بشكل مباشر في ” الحرب الامريكية على الإرهاب” في أفغانستان وسوريا وباكستان واليمن حوالي 800000 في حين ان الوفيات غير المباشرة الناتجة عن تدمير البنية التحتية والرعاية الصحية والمجاعة قد تجاوز 3.1 مليون. كما اجبر 37 مليون شخص على الفرار من ديارهم خلال عقدين من الحرب. وأدت هذه الحروب الى تدمير مجتمعات بأكملها. رغم ان عدد القتلى بين الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان تجاوز قليلا 7000، الا ان مئات الالاف من الجنود الأمريكيين خرجوا من هذه الحروب بإعاقات جسدية ونفسية خطيرة. بحلول 2018 بلغ 1.7 مليون من المحاربين القدامى عن إعاقة ناجمة عن مشاركتهم في الحرب.
بالإضافة الى هذا تورط رامسفيلد بشكل وثيق في جرائم ” الاختفاء والترحيل الاستثنائي والتعذيب” وأشرف شخصيا على انشاء معسكر غونتانمو وسجن أبو غريب واستخدام لما يسمى ب “تقنيات الاستجواب المعززة” في هذا المعسكر وقاعدة بغرام وسجن أبو غريب وحتى في سفارات وقنصليات أمريكا والسجون السرية في أوروبا والكثير من الدول الاخرى. اذ تسبب في اعتقال عدد كبير من البشر واستخدام أساليب تعذيب وحشية خلال الاستجواب منها الاغتصاب واستخدام الكلاب للترهيب والضرب والصعق بالكهرباء والحرمان من النوم والموسيقى الصاخبة لساعات وصولا الى قتل المعتقلين وحرمانهم من محاكمة عادلة.
أصدر رامسفيلد في 2002 مذكرة أعلن فيها بان الحرب على الإرهاب ” تجعل قيود جنيف الصارمة حول استجواب سجناء العدو بالية”. ومن لا يتذكر رامسفيلد وهو يعبر عن احباطه عندما ظهرت صور التعذيب والاعتداء الجنسي على سجناء أبو غريب بالعراق في عام 2004 حول فشل الجيش في الحفاظ على سرية هذه الصور وحول تسهيل التكنلوجيا لفضح هذه الجرائم.
وأشرف رامسفيلد على تطوير برامج الاغتيال بصواريخ الطائرات بدون طيار في جميع انحاء العالم التي تقتل المدنيين في 95% من الحالات. كما كان من مهندسي برامج التجسس على شعب أمريكا والعالم. بلغت تكلفة الحروب التي روج لها رامسفيلد تريليونات الدولارات. وساهمت السياسات التي روج لها في تعميق ازمة النظام الرأسمالي برمته، كما أدت الى إشاعة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط والعالم.
لم يعبر دونالد رامسفيلد يوما من الأيام عن أي ندم عن أي من مواقفه وافعاله اذ دافع عنها في مذكراته التي نشرها عام 2011 تحت عنوان ” المعروف و غير المعروف”.
لقد عبر رامسفيلد اثناء أداء دوره عن سذاجة منقطعة النظير. فمثلا أكد لوسائل الاعلام بان حرب العراق لن تستمر أكثر من خمسة أشهر. وكان من المؤمنين بان الجماهير في افغانستان والعراق سوف ترحب بالجيش الأمريكي. وكان له قناعة قوية بان تلك الحروب كانت ستعزز مكانة أمريكا على المدى الطويل. وقد كان لرامسفيلد “رؤية” مفادها بان بإمكان أمريكا من خلال استخدام قوات برية صغيرة مدعومة بقوة جوية ساحقة وذخائر دقيقيه التوجيه ان تخضع شعوبا بأكملها.
ان عدم محاسبة رامسفيلد على الجرائم التي اقترفها يعبر بشكل دقيق عن الطبيعة الاجرامية لكل النظام الرأسمالي التي يستند على منطق الربح وعن منطقه الملتوي في تقيمه لكل الاشياء بما فيها جرائم الحرب. لا تصل جرائم التي ارتكبها قادة جمهوريات يوغسلافيا السابقة الذي حكموا في المحكمة الدولية جزء يسير من جرائم رامسفيلد رغم هذا يموت بدون حتى ان يفضح في الاعلام. ان موت رامسفيلد معززا مكرما دون ان يصبح رمز للأجرام والقتل هو دليل على تواطئ المؤسسات الامريكية بما فيها الحزبين الرئيسيين والاعلام والأكاديمية في الحروب وجرائم القتل الجماعية والتعذيب.
من جهة أخرى ان عدم نقد مسيرة رامسفيلد والاخفاقات الهائلة التي جلبها لأمريكا يعبر بشكل دقيق عن حقيقية كون أمريكا امبراطورية في مرحلة التعفن. ان اخفاق أي مسؤول في وظيفته مهما كان نوع الاخفاق في ديمقراطية برجوازية يجعله عرضة للنقد. ولكن في أمريكا، يموت هذا الشخص الذي تسبب في كل هذه الكوارث والاخفاقات وفي الحقيقة كان له دور رجعي من اليوم الأول لدخوله معترك السياسية دون ان نجد أي نقد او تقيم جدي لهذا التاريخ.
حسب المؤسسة الرسمية الأمريكية تعتبر جرائم واخفاقات رونالد رامسفيلد انحرافات بسيطة في سيرة شخصية ” عظيمة”. اذ أشاد وزير الدفاع الحالي لويد أوستن، نيابة عن إدارة بايدن ب ” مسيرة رامسفيلد الرائعة” وتحدث عن ” طاقته اللامحدودة، وذكائه العميق والالتزام الدائم بخدمة بلاده”. وأعرب الاعلام بشكل عام عن اسفه لان سمعة رامسفيلد “كبيروقراطي ماهر وصاحب رؤية لجيش امريكي حديث قد انهارت بسبب حرب العراق الطويلة والمكلفة”.
لقد رافق وفاة رامسفيلد، انسحاب أمريكا بدون أي ضجيج من أفغانستان التي تقع بسرعة البرق تحت سيطرة طالبان. ان عشرين سنة من الحرب في افغانستان والعراق ساهمت في تبذير تريليونات الدولارات وتقهقر مكانة أمريكا وتصاعد العداء لها عالميا وتراجع قدرتها على املاء رغبتها على الدول الأخرى وتعمق المشاكل الداخلية، ولكن رغم هذا تعجز الطبقة الحاكمة من انتقاد احد مهندسي هذا الإخفاق المدوي. هذه علامة من علامات بلوغ هذه الإمبراطورية مرحلة الافول.