الجزء الثاني/ 1
“الأمة” من وجه نظر منصور حكمت!
ليس هناك شك بأن البشر يُقسمون إلى اعراق حسب المظهر الخارجي مثل لون الجلد والشعر ولون العيون وطول القامة الخ. كما ليس هناك شك بأن مجاميع بشرية قد تشترك في عوامل مثل اللغة والأرض والتاريخ والتقاليد والثقافة الخ، والتي على أساسها يقسم البشر إلى اقوام واثنيات.
ولكن الحركات القومية نادرا ما تتحدث باسم الاعراق او اثنيات او حتى الاقوام، بل تتحدث باسم “الأمة” لأن في اغلب الأحيان، ليس من مصلحة الحركات القومية البرجوازية الحديث باسم الاثنية والقوم، لان العالم الواقعي ليس مقسم بشكل مثالي على أساس الأعراق والاثنيات والاقوام والعوامل التي هي أساس هذه التقسيمات تتغير باستمرار. لهذا لقد اخترعت البرجوازية مقولة ” الامة” التي هي الى حد كبير مفهوم غامض وخيالي ومختلف وأحيانا متناقض حتى حسب الحركات القومية البرجوازية.
بشكل عام في حال الحركات القومية التي لها بلدان بحدود معترف بها، تكون مهمتها في تعريف “الامة” التي تتحدث باسمها سهلة الى حد ما، فالأمة هي سكان البلد المعترف به، ولكن الواقع ليس بهذه السهولة بالنسبة للحركات القومية التي ليس لها بلدان.
على عكس تعريف العرق الذي يستند على المظهر الخارجي للإنسان، يجد علماء الاجتماع صعوبة في تعريف “الامة”. ان أفضل التعريفات هي انها مجموعة إنسانية لها لغة وتاريخ وثقافة وارض مشتركة تطمح الى إقامة دولة وحكم نفسها. ولكن هناك مشاكل كثيرة تعتري تعريف ” الامة” على هذا الأساس.
وضح منصور حكمت بانه يطلق الأمة على أناس “اكتسبوا في مسار تطور تأريخي وبصورة ثابتة لغة مشتركة وحياة اقتصادية مشتركة وسمات وأطر نفسية مشتركة تجد انعكاسها في ثقافة مشتركة”.
ولكن يعتقد بان رغم ان ” الامة” تصور كظاهرة معطاة ومسلمة وملموسة، حقيقة موضوعية ويعد الانتماء والهوية القومية للفرد، شأنهما شأن جنسه، سمة موضوعية ومعطاة لا يعتريها الشكوك، الا انه ليس هناك تعريف دقيق للامة، يمكنه توضيح الهوية القومية المشتركة بشكل موضوعي وفقا لمشخصات مرئية لا تقبل الجدل. فالتعابير الموضوعية التي تشير الى العوامل كاللغة، الارض، التأريخ، العادات والتقاليد المشتركة وغيرها، والتعابير الذاتية التي تصور الانتماء القومي بشكل من الاشكال كنتاج لاختيار الجماهير ذاتها، كل هذه التعاريف، عندما تقابل بالتقسيم القومي الواقعي للعالم، تظهر عدم صحتها وعدم مطابقتها مع الواقع.
ويضيف لا يوجد تعريف علمي أو متفق عليه لمقولة الأمة ولا توجد لائحة بسمات ” الامة”. في الحقيقة لم يستطع العلماء والساسة حتى يومنا هذا من إعطاء تعريف شامل لا لبس فيه لمقولة الأمة استنادا الى سلسلة خصائص مادية ملموسة مثل (اللغة المشتركة، الأرض المشتركة، التقاليد المتشابهة وغيرها) والتي يتم، على أساسها، تمييز الأمم الأصلية عن غير الأصلية منها، تتطابق هذه الخصائص مع من كانت أمة ولا تتطابق مع من هي غير ذلك. ان أكثر اللوائح شمولية ودقة بخصائص الأمم لا تنطبق على الأمم الموجودة فعلا ولا يمكن تصنيفها بشكل صحيح وتغلب الاستثناءات على القاعدة في اكثرها.
والأكثر من ذلك يقول، ليس تعريف الأمة وخصائص الأمة كذلك بمسعى علمي لمعرفة ووصف موضوعي لكائن موجود خارج عنا ويمكن تلمسه، بل تدخل فعال وذاتي في عملية تشكل الأمم والأمة. انها خطوة سياسية. ان المساعي العلمية والجامعية لتعريف الخصائص القومية جزء وحلقة من حركة سياسية اوسع لإيجاد الأمم وابقائها واعادة انتاجها.
يقول منضور حكمت لم ننكر تلك الحقيقة المتمثلة بأن للناس خصائص عرقية ولغوية وقومية (من الاقوام – م) ملموسة، ويعيشون في أراضي مختلفة، وأدت معه القضايا الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية بين البشر في العالم الى تجمعهم بشكل مجموعات محلية ومناطقية تسود بينهم لغة وتقاليد خاصة. ان ماهو مدعات للنقد هو مقولة الأمة. ان سئلنا هل كل عرق أو أي قوم أو أناس ناطقين بأي لغة خاصة أو قاطنين أي أرض محددة يعطيهم “الحق” في اقامة دولتهم، سيكون جوابنا النفي طبعا. ليست هذه المقولات مصدر وتبرير لتعريف مجموعات إنسانية محددة ومجزأة وتمييزهم عن الآخرين. ان أهمية مقولة الأمة تنبع من خلقها للفصل المذكور وتجيزه وتضفي الشرعية عليه. ليس الانتماء للأمة، على هذا الأساس، اسم آخر للقومية والعرق واللغة المشتركة. ليس عنوانا لتركيب مجمل هذه السمات في مجموعة إنسانية واحدة. بل تعبير مجازي وانتقائي، راية سياسية لتحويل هذه الخصائص، وفي أغلب الحالات أحدهما، لخلق التمايز السياسي ونيل حقوق سياسية وقطرية مختلفة عن الآخرين.
يضيف منصور حكمت، مقولة الأمة مقولة غير محددة وغير موضوعية، ليست مقولة قائمة بحد ذاتها، ذات معالم واضحة يمكن تعريفها واعادة تعريفها بسهولة. لا يعني هذا إن الانتماء القومي والهوية القومية غير مادية وخيالية، بل يعني إنها غير قابلة للتعريف، مستقلة ومفصولة عن المرحلة التاريخية والمسارات السياسية والتوازن الايديولوجي في اي فترة من حياة المجتمع. فالأمة والهوية القومية هي الحصيلة المتحركة والمتغيرة دائما في ميدان السياسة.
يقول، يمكن تناول هذا الغموض على اصعدة مختلفة. لا يمكن ارجاع الأمة الى الأصل العرقي أو حتى القومي، ولا الى الخصائص البيولوجية للناس ولا تحدد بالوجود والعيش على ارض مشتركة واحدة. الأمة والانتماء الى الأمة ليست اللغة المشتركة، ولا التقاليد المشتركة، وليست ازلية ولا ابدية، بل هي نتاج التأريخ. تأتي وتزول، تتغير ويعاد تعريفها. الأمة، من الناحية الفيزيقية، ليست واحدة ذات جسد واحد وعقلية واحدة، بل هي كائن مركب من افراد متعددين واجيال بشرية مختلفة وفي حالة من التغيير المستمر.
إذا أخذنا أيا من العوامل السابقة الذكر أو أية مجموعة منها كاللغة المشتركة، التأريخ والثقافة المشتركة، الارض المشتركة وغيرها كأساس، فان قليلا من التعمق سيجعلنا نكتشف أرجحية الشواذ على القاعدة العامة، ونكتشف ذهنية وانتقائية مجمل التصنيفات القومية وحتى العوامل السابقة نفسها. من بين كل الهويات التي اختلقت على مر التأريخ، لأجل تصنيف الناس، كرابطة الدم، القبيلة، القوم، الجنس، العرق وغيرها، فان الأمة هي أكثرها تموجاً وغموضاً وذهنية غير قابلة للإثبات واكثرها اشتراطا من الناحية التاريخية.
أن عامل اللغة يضع الانتماء القومي لجماهير بلدان “راسخة ومتجسدة تاريخيا” ومتعددة اللغات مثل سويسرا وبلجيكا والولايات المتحدة اليوم وكندا وفرنسا وبريطانيا وقسم كبير من بلدان قارة افريقيا واَسيا تحت طائلة السؤال. ومن الملفت الإشارة الى أن في مرحلة الوحدة الايطالية وظهور الأمة الايطالية مثلا، فأن [٥] من المئة فقط من الجماهير كانت تتحدث بما يسمى باللغة الايطالية اليوم. من جهة أخرى، تتسع دائرة الامم المتعددة اللغات، بل اللغات المتعددة الأمم في العالم. ان نظرة خاطفة على خارطة العالم تبين مدى الاتساع وعالمية استخدام اللغات الانكليزية والفرنسية والاسبانية بوصفها اللغة الاولى، ولغة “الأم” لدى الجماهير.
ان مقولة الارض لهي معقدة بذات القدر ايضا. لم تكن اقواما وأمما مختلفة تقطن اراض مشتركة وتتناوب الحكم وتدفع أحدهما الأخرى للهجرة نحو هذه الجهة أو تلك فحسب، بل ومع نمو السكان في العالم واتساع حركة البشر وسفرهم وهجرتهم في أصقاع العالم، ينبغي سنويا ان يعاد النظر مرة أخرى بكل تعريف للأمة يستند الى الارض المشتركة.
ان معيار الحياة الاقتصادية المشتركة والصلة الاقتصادية الداخلية لهو مبهم الى حد كبير، وبالأخص غير ماركسي الى حد كبير.