من “شيوعية” الى شيوعية اخرى!
(بمناسبة اسبوع منصور حكمت)
حين تعرّفت على الشيوعية العمالية عام ١٩٩١، احسست عميقاً اني محظوظ لاني لم اطلع على الشيوعيات الاخرى، والتي اطلعت عليها لاحقاً، وكنت محظوظاً اني لم انتم للحزب الشيوعي العراقي، ولم تتشوش قناعاتي بالتجربة السوفيتية واليوغسلافية والكوبية والماوية وغيرها، واني عثرت على الماركسية من مصدر هو يعبر باجلى عنها، ماركسية منصور حكمت وفهمه لها، ولم يخطر ببالي يوماً ان اضع ميزاناً او مقارنة مابين منصور حكمت وماركس ببساطة لان شيوعية عمالية حكمت، وحسب قوله وممارسته، لا تتعدى شيوعية ماركس نفسها. فحتى منصور حكمت نفسه لم يتحدث عن غير هذا، وهو يعرف جيدا ان أصنام الراسمالية نفسها تعترف بعبقرية ماركس، (رغم اني اراه قائد سياسي عبقري اكثر مما اراه اكاديمي عبقري او عبقري اكاديمي). عرفت من الشيوعية العمالية ان الماركسية ليست مدرسة فلسفية حصراً، وانها ليست نضال الشعوب المضطهدة والكادحين على العموم، ولا الخضوع وانتظار المنقذ او مهدي منتظر اشتراكي ولا “الحتمية التاريخية”، عرفت كل هذا من خلال منصور حكمت وتطابقه الماركسي مع منهج ماركس.
الماركسية اكبر بكثير من ان تكون مدرسة فكرية او عبقرية اقتصادية. انها الاداة التحليلية واداة العمل السياسية من اجل انهاء العمل المأجور وارساء مجتمع اشتراكي. انها فكر وممارسة تحرير الطبقة العاملة لنفسها، وبالتالي، تحرير المجتمع ككل. فبدون تحرير الطبقة العاملة لايمكن الحديث عن تحرير المجتمع من مجمل اشكال ظلمه واستغلاله.
الماركسية، وفق منصور حكمت منهج ورؤية ودليل حياتي اجتماعي ونظرة للانسان عموماً، تجدت تبدياتها في في البيت والعلاقات الاجتماعية، كما انها منهج لادارة الدولة لادارة سياساتها واقتصادها وقوانينها بحيث تعد قيمة الانسان، دون النظر الى عرقه او دينه او لونه او جنسه، اولوية مابعدها اولوية. وهذا بالضبط هو طرح منهج الشيوعية العمالية، ودليلها في برنامج “عالم أفضل”، بدءاً من حقوق الطفل، وليس انتهاءا بالمساواة التامة بين الجنسين. ان لا تكون ببغاء لترديد المقولات وتذييلها باسم فيلسوف او مفكر ما، بل ان تنتهجها في حياتك الشخصية، وفي نضالك الحثيث ضد الرأسمالية باي شكل كانت عالمية او حكومات محلية او أشخاص. ان يكون لك هدف لحياة شخصية كريمة لك ولكل من حولك، بل للعمال والعاطلين والنساء والشباب والأطفال. على حد قول منصور حكمت، اناس لو ازلت قشور التقاليد والطبقية والتربية الرأسمالية من قلب اي منهم، ستجده ينشد الحرية والمساواة وحكومة تديرها الجماهير نفسها متمثلة بحكومة عمالية، الاسم المرادف للجمهورية الاشتراكية.
وانا اتجول في شوارع بغداد المقفرة حينها عدا عن قطعات الجيش الامريكي والمقامرين الذين هاجموا البنوك والدوائر الرسمية من قادة وكوادر الكتل التي تدير شؤون العراق الان، رأيت أحد البسطاء يخط عبارة “الفقراء يحبون الحزب الشيوعي” بالصبغ الاحمر على جدار مديرية الإسالة في مدخل الكرادة، اخذتني هذه الجملة الى امواج كبيرة من الافكار والطروحات التي لاتعطي الشيوعية شكلها الانساني المتطلع وافقها الواضح في ان يكون “مقود” المجتمع بيدها، بل تحولها الى تلك الحركة التي تمشي قرب الجدار وتنشط في السراديب، شيوعية لاحول لها ولا قوة، حركة بائسة ليس لها قدرة على رفع رأسها والتقدم خطوة واحدة مقابل آلة عسكرية ضخمة تستطيع ان تفجر كوكب الأرض ست مرات وآلية اقتصادية تجمع من الثروات مايشتري ست كواكب وآلة اعلامية جبارة تزورك حتى داخل احلامك، هذه الحركة لايجب ان تسعى لمنح الفقراء بعضا من كسر الخبز ولا حذاء وسترة لاحد الكادحين وابقاء الكادحين والمحرومين في هذا الاطار، هذه الحركة كما تعلمتها من منصور حكمت يجب ان تدق اركان البربرية، الراسمالية، ان تتقدم خطوتين بمسار انقاذ البشرية امام تقدم الرأسمالية خطوة واحدة في مسار تدمير البشرية. هكذا تعلمت من الشيوعية العمالية، ان تمنح البشرية فرصة اعادة الخيار للإنسان، وان تمتلك البشرية كل البشرية فيها سلاحها ضد الرأسمالية التي تسعى لتحويل هذا الكوكب الى سجن كبير ومكب نفايات.
الماركسية، كما اراها من خلال الشيوعية العمالية، هي الايمان بقدرة الانسان وقوته مع وداخل الكيان الاجتماعي، ومع القوة التي تنشد التغيير الجذري (الطبقة العاملة)، على قلب المعادلة وتحويل القدرات لخدمة البشرية. فنفس ذلك الفرد الذي يبدع ويعمل ويكتشف وتاتي الرأسمالية لتجني ارباح هذه الانجازات بطرحها في السوق، هو نفس هذا الفرد وداخل بيئته في العمل او السكن يستطيع ان يعمل باتجاه اسقاط تلك الآلة البربرية. وان الجبهات واللجان ذاتها التي يم تشكيلها لحكمنا وقمعنا، نستطيع ان نشكب يدلاً منها مجالسنا التي تمثلنا في محلاتنا واماكن عملنا ودراستنا لنقاوم ونسقط الوضعية المقلوبة. لا تجعلك الشيوعية العمالية تركن للرضوخ والاستسلام منتظراً الحزب “المنقذ” كما تفعله القومية مثلاً، ولا الفرد المخلّص”، “المُنتظر” كما تفعله الاديان. الشيوعية العمالية هي ان يكون الانسان هو “المنقذ”، من لجنته في العمل ومجلسه في محل السكن، ان يكون له دور في مجتمعه الذي سيفرز من بين ثنايا هذه الحركات قادته المعبرين عن طموحاته وسعيه في الخلاص من البربرية الرأسمالية وتحقيق الحرية والمساواة وتأمين كل المتطلبات الانسانية والاجتماعية القادرة على منح حياة كريمة.
ان برنامج “عالم افضل” هو تصوير للعالم الذي تنشد الشيوعية العمالية ارسائه، برنامجاً ومنهاجاً وسبل تحقيقه. انها الرواية الرسمية والشرعية للماركسية كما يحلو لمنصور حكمت تسميتها، لم اجد الى الآن من بين كل منتقدي الشيوعية العمالية من تجرأ على نقدها بشكل سياسي عميق او من خلال برنامجها وتفصيل كل حق انساني فيه وكيفية تحقيق وانجاز هذا الحق، وافلح في ذلك. لم اجد من بين منتقديها من تجرأ على وضع الاصبع على نقاط اختلافها او تقاطعها مع الماركسية، وفندها! لم اقرأ في اغلب الاحيان اكثر من اتهامات عائمة لا ترى ارضها، او اتهامات وانتقادات شخصية وفئوية لاتقي برداً او جوعاً.
وددت لو كان منتقدي الشيوعية العمالية ان يتحلوا بمنهجية ماركس العميقة والتي رايناها في نقد فيورباخ وهيجل على سبيل المثال، او يتحلوا بالجسارة السياسية والوضوح السياسي لمنصور حكمت الذي أسس حزبه العمالي ابان قمة الهجمة العالمية والطبول التي قرعت لـ”سقوط وانتهاءالشيوعية” اثر انهيار الكتلة السوفيتية، كان من العمق والوضوح بحيث تنبأ بالانهيار اللاحق للتجربة السوفيتية نفسها قبل سنوات من ذلك، ونقده للاشتراكية القومية ذاتها التي تحيطه من كل الاتجاهات متغنية بالصين وروسيا وكوبا والسائرة بنفس مسار اليسار التقليدي الذي انتقده في صميم منهاجه وسياساته اللاعمالية حين وضح المشتركات العامة في ابحاثه المتعلقة بالاشتراكية البرجوازية وتجلت في كتابات كثبرة من مثل “اسطورة البورجوازية الوطنية” و”اختلافاتنا” و”نقد اشتراكي للتجربة الروسية” ونقده للقوى والاحزاب التي تدور في فلك السوفيت.وقد دوّن ذلك كله بدون اتهامات جزافية او نقد شخصي وانما وجه نقده لرفاقه قبل خصومه في تبني او البقاء تحت تاثير ماسمّاه اليسار اللاعمالي او الشيوعية اللاعمالية. فيما اكد، وهو يضرب اركان ولب تلك التيارات، على بقاء الشيوعية طالما العمل الماجور والرأسمال باقيان، بقائها رغم الهجمات المتواصلة للرأسمالية على العالم وتشويش اذهان البشر، شيوعية ماركس المتجسدة باوضح الاشكال بالشيوعية العمالية.