إلى أين يستمر التوازن الحالي بين الجيش والشعب في السودان؟
ان الإجابة على هذا السؤال؛ من الاصح ان نرجع الى الوراء قليلا أي الى قبل الاحتجاجات والتظاهرات التي أدت الى الإطاحة بحكومة عمر البشير العسكرية. ان المؤسسة العسكرية السودانية جاءت الى السلطة بعد انقلاب على الحكومة صادق المهدي المنتخبة والتي كانت متعاونة مع الإسلاميين أمثال تيار احمد الترابي في عام ١٩٨٩ . ومنذ ذلك الوقت بدأت المؤسسة العسكرية بترسيخ سلطتها عن طريق مشاريع اقتصادية ضخمة على نهج مثيلتها في دولة المصر… ومع اندلاع الاحتجاجات والتظاهرات بالضد من حكومة بشير واسقاطها والتي كانت الطرف القوي فيها التيار المدني والمؤسسات المهنية والحركة النسوية وكذلك النقابات العمالية الرسمية.
ان قوة الحركة الاحتجاجية والتي أطاحت بحكومة البشير لم يكن لديها الطاقة الكافية لإسقاط حكومة العسكريين من الإساس وبالكامل ، وانما استطاعت ان تقلل من سلطتها واجبارها على التنازل وقبول بمشاركة المدنيين في السلطة وتقسيم السلطة بالتساوي وبالتناوب بينهما. وان التيار المدني كان متوهما بالمؤسسة العسكرية ولم يوجه حراب نقده لهذه المؤسسة والشعور بالخطر المحدق وخطورته… وبعد سنتين من تقاسم السلطة هذه واشتداد الصراع بينهما وخاصة في ظل الظروف والمعاناة التي يمر فيها المجتمع السوداني مع تبادل الاتهامات احدهما للآخر، هو السبب في عرقلة مسيرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية ، وفي المحصلة النهائية تفاقم الصراع نحو انقلاب العسكري على الحكومة المشتركة. ولم يكن خيار امام التيار المهني والمدني الا التمسك بالساحة وتعبئة الجماهير من جديد بوجه الانقلاب العسكري واستمرار الاحتجاجات. وان النقابات العمالية وخاصة عمال النفط ومشاركتها في دعم المدنيين، لها وزنها وخطورتها والتي تٌراقب من قبل الدول الغربية وخاصة أمريكا.
ان احد اهم نقاط القوة التي تتوفر عليها حركة الاحتجاجات في السودان انها تتمتع بنوع من التنظيم في لجان المحلات السكنية في كل مكان. أي لجان الفعالين في كل محلات السكن والعمل. ان مهمة هذه اللجان التنسيق والتعاون مع البعض وتبادل الخبرات وفي حالات انقطاع الانترنت والشبكات او الخطوط الهواتف يتم الاتصالات المباشرة بين الفعالين وناشطي الاحتجاجات الجماهيرية. ان هذه الخاصية التي تتمتع به الحركة الاحتجاجية في السودان ما كانت موجودة في مصر او في العراق اثناء القيام بالاحتجاج بالضد من الأنظمة الحاكمة . وان هذا النوع من التنظيم أدى إلى الحفاظ على التوازن بين العسكريين والمدنيين لصالح المدنيين وهذه هي نقاط القوة و السلاح القوي الذي يستخدمه التيار المدني بالضد من العسكر والمؤسسة العسكرية. واليوم بعد انقلاب العسكر وفرض حالة الطوارئ في المجتمع لم يستطع العسكر فرض التراجع والتنازل على التيار المدني واسكات أصواتهم الاحتجاجية …
ان استمرار التوازن بين العسكر والمدنيين لن يبق على طول الخط ولفترة طويلة وانما يحاول العسكر بكل امكانياتهم وقوتهم الاقتصادية والعسكرية إزاحة العقبات امام استرجاع سلطتهم المطلقة كما كانت في عهد عمر البشير . وان الانقلاب الحالي هو خطوة في هذا الاتجاه واذا استطاع (العسكر) ان يزيح المدنيين بالقوة فان الاستبداد والقمع المطلق سوف يعود كما كان في السابق؛ ولكن اذا استطاع التيار المدني تقوية مكانته وتوسيع رقعة الاحتجاجات عن طريق احتواء جميع القطاع الإنتاجي وكسب قوة الطبقة العاملة الى جانبه فان إزاحة العسكر سوف يكون سهلا ويمهد الطريق لتأميم جميع المؤسسات الاقتصادية العسكرية وجعلها في خدمة المواطنين وان تجعل من الجيش مؤسسة عسكرية بدون سلطة سياسية. وهذا يتوقف على الحفاظ على التنظيم الحالي وتقويته وجعله منظما ومستقلاً عن التيارات الإصلاحية البرجوازية الأخرى وان يتجه نحو يسار المجتمع والحركة النسوية وان يبتعد عن الحركات الإسلامية المتنوعة والمتظاهرة في لباس الديمقراطية …
ان هناك عوامل أخرى يمكن ان تؤثر على مستقبل هذا الصراع وهو تدخل القوة الإقليمية والعالمية وصراعاتها. ان روسيا والصين يحاولان تخفف الأعباء على المؤسسة العسكرية السودانية وتقف ضمنيا بجانب هذ المؤسسة القمعية لكي تمهد الطريق لبناء موضع قدم في الشرق الأوسط. وكذلك تحاول أمريكا والغرب ان تدعم التيار الإسلامي ما يسمى بالمعتدلة كتيار المهدي المتمثل بمريم الصادق المهدي وان تقوي موقعيتها داخل التيار المدني في الاحتجاجات الجماهيرية. ان تدخل هذه الدول سوف يعرقل تتغير الأوضاع لصالح الجماهير المحرومة في السودان. ولكن الحذر واليقظة وكذلك تبديد الأوهام بكل القوة المضادة وكذلك الاعتماد الأكثر بقوة وإرادة الجماهير المستقلة بإمكان ان يعرقل محاولات جميع القوة من الدول الامبريالية والإقليمية الرجعية ان يكون له موضع قدم في مستقبل السودان.
ان تجربة السودان لها تأثير على الأوضاع في المنطقة في كلا الاحتمالين، انتصار العسكر أو انتصار التيار المدني. ومن هنا على الاحرار ودعاة الحرية والمساواة ان يدعموا الحركة النسوية والنقابات العمالية واليسار والاشتراكيين في السودان وان يقووا صفوف هذه الاتجاهات. وان تقوية هذه الحركات سوف يؤثر إيجابيا على مستقبل الاحتجاجات في المنطقة ويكون تجربة يمكن الاستخلاص الدروس منها نحو تقدم الاحتجاجات وانتصارها.