هل الشيوعية ممكنة في العراق؟ سؤال سيثير الحنق لدى الكثيرين وبغض النظر عن انتماءاتهم ومعتقداتهم سواءً الفكرية او السياسية او الاجتماعية. في مقابل ذلك السؤال طرح البديل (الإسلام هو الحل)، إلا أنه مر بشكل عابر على المجتمع وفرض بأكثر اشكاله وحشية، ومع هذا يطرح كل يوم وتحت مسميات مختلفة، وهذه المرة تحت عنوان محور ( المقاومة والممانعة).
على العموم لم تتردد جميع التيارات السياسية البرجوازية في العراق من طرح بديلها، دون أية مواربة أو شك وبثقة عالية بالنفس، على الرغم من إنها وبجميع تلاوينها لم تثبت فشلها في إدارة السلطة والمجتمع على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية فحسب؛ بل مارست بتفنن واتقان عالي كل اشكال الفساد الاداري والمالي والسياسي، وساهمت بشكل مباشر وغير مباشر وبمستويات مختلفة في ارتكاب الجرائم بحق الانسانية التي حدثت في العراق، المقابر الجماعية والاعدامات والتعذيب في السجون والتغييب والتهجير وافقار الجماهير العمالية والكادحة.
و على الاقل على مدى ما يقارب عقدين، جربت تلك التيارات حظوظها في السلطة السياسية، منذ النظام القومي البعثي الفاشي ومرورا بغزو واحتلال العراق وانتهاء بحكومات الاسلام السياسي التي كانت خاتمتها المسك وهي الكاظمي وحكومته الفاشلة التي صعدت على أكتاف انتفاضة اكتوبر لتعيد الى المشهد السياسي التيار القومي ببعده العروبي والمحلي ولكن بشكله الكوميدي، واصبحت مسمياتها وخاصة الإسلام السياسي الشيعي والداعشي مرادفة للإجرام والسرقة والفساد والوحشية، ومع هذا تطرح نفسها من جديد كبديل سياسي عبر كل الوسائل غير المشروعة مثل القتل والاغتيالات والتصفيات الجسدية، فهي لا تملك غير تلك الوسائل، لأنه ببساطة لفظها المجتمع واصبح كالكابوس الذي يأتي في أحلام الأطفال كما يجثم في نفس الوقت على ادمغة الاحياء وصدورهم في العراق.
ماذا هو البديل الذي يطرحه الإسلام السياسي الشيعي في العراق اليوم؟ ما هو مستقبل المجتمع العراقي و٤٠ مليون إنسان الذين يسكنون فيه بعد ما يقارب عقدين من الزمن؟ الجواب يأتي منهم وبدون أي تردد او حياء هو تسطير الكلمات الانشائية والطنانة والفارغة من المحتوى مثلما تعودنا عليها من التيارات القومية، واخيرا تلقفتها القوى الاسلامية التي تصف نفسها بالمقاومة للاحتفال بميلاد تأسيس مليشيات الحشد الشعبي، عبر دق الطبول ونفخ المزامير، كل تلك الأصوات والزعيق التي تنثرها في المجتمع هي من اجل طمس ماهية هذه المليشيات المجرمة واجندتها الجهنمية، وكي تخفي فسادها ونهبها وما آلت اليها اوضاع المجتمع العراق تحت سلطتها، من أكوام الزبالة والطرقات المدمرة وانهيار كل اشكال الخدمات الصحية وتوسع مساحة الفقر بشكل سرطاني وانتشار مخيمات النازحين، هذا الى جانب التطهير الطائفي والديموغرافي في العديد من مناطق العراق تحت عنوان مكافحة الارهاب والحرب على داعش. وفي ظل كل تلك الترهات الاعلامية لمحور البؤس والاجرام والفقر الذي يسمي نفسه بالمقاومة، لماذا لا تطرح الشيوعية، البديل الآخر أمام الجماهير، لماذا لن تكن الاشتراكية هي الطريق الأنسب لخلاص العراق من كل هذه الماسي؟ وخاصة والكل يعترف بما فيهم عتاة المجرمين في محور المقاومة أن الطرف الوحيد الذي لم يتورط بعمليات الفساد، ولم تلطخ يداه بقطرة من دماء الابرياء، هم الشيوعيون بجميع فرقهم ومجاميعهم.
بالتأكيد أن هذا السؤال سيثير الفزع في قلوب الإسلاميين قبل القوميين، وسيشحذون أسلحتهم الصدئة وسيزعقون إنكم ملحدون وزنادقة ويبيحون النساء، و عديمي الاخلاق…الخ من تلك التهم التي قيلت عن الشيوعيين منذ زمن كتابة البيان الشيوعي في عام ١٨٤٨. وسيضيفون ايضا ان التجربة السوفيتية فشلت وان النظام السوفيتي الشيوعي كان نظاما دكتاتوريا، والشيوعيين ارتكبوا حمامات دما في العراق بالتنسيق والتعاون مع عبد حكومة القاسم في في ١٩٥٩. فهم لا يملكون أي شيء في محاربتنا غير تلك الاقوال، ومع هذا نرد عليهم دون اي عناء وحتى لا نحتاج الى انفاق سعرة حرارية واحدة من طاقتنا في جوابنا عليهم؛ منذ أن طرح شعار (الاسلام هو الحل) وتبناه كل المجاميع الاسلامية فلقد كفروا بالإنسانية، فها هي إيران الجمهورية الاسلامية، و افغانستان طالبان، ولبنان حزب الله واليمن الحوثي والسودان اخوان المسلمين وعراق المليشيات ودولة الخلافة الاسلامية داعش، فلم تنتج عن كل تلك النماذج غير ما ذكرناه في بداية المقال. اما إباحة النساء وعديمي الاخلاق كما يصفوننا نحن الشيوعيون، فكل شيوخهم بدءا من الخميني الذي افتى بجواز مفاخذة الأطفال الرضع، ومرورا بشيوخ الأزهر والسعودية داعش وفصائل الحشد الشعبي ودولة المالكي-حزب الفضيلة فأجازوا ممارسة الجنس مع الأطفال عبر تزويجهم في السن التاسعة، واباحة الجنس مع النساء عبر مؤسسة الدعارة التي سميت بزواج المتعة والمسيار العرفي والعرفي، وانتهاء بالدواعش الذين اعادوا من كهوف التاريخ اباحة النساء -الغنائم في حروبهم، نقول فلا غبار عن اخلاقهم وقيمهم الانسانية لأنها مصانة من قبل ممثلي الذات الالهية في الأرض.
اما فيما تخص التجربة السوفيتية والدكتاتورية الشيوعية وحمامات الدم في زمن قاسم، فلا علاقة لا من قريب ولا من بعيد بشيوعية ماركس. ومع هذا، لنسلم جدلاً مع هذه المزاعم الكاذبة والمغرضة، فالبرجوازية الديمقراطية واقتصاد السوق قدمت مئات النماذج التي تكشف عن دمويتها ودكتاتوريتها ووحشيتها لا تقل بشاعتها عن التجربة الستالينية والسوفيتية على العموم وامتداداتها في العراق والمنطقة. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ما ارتكبت من الاهوال والجرائم الانسانية في الحربين العالميتين، والوحشية النازية والفاشية واهوالها تجاه شعوب العالم، والانقلابات العسكرية الدموية للمخابرات المركزية الامريكية العراق وايران واندونيسيا وتشيلي والارجنتين والفلبين والقائمة تطول اضافة الى غزو كوريا وفيتنام والعراق وافغانستان، وصناعة الارهاب الاسلامي وتصديره الى سورية وليبيا واليمن والعراق لتنتج عشرات العمليات الارهابية في عشرات من مدن العالم، وسياسات الحصار الاقتصادي الاجرامي على الشعوب، هذا ناهيك عن المشاريع الاقتصادية التي فرضت بحراب تلك الانقلابات العسكرية التي نعاني من رحاها اليوم في العراق وسميت بالورقة البيضاء. وبين هذا وذاك تقديم كل الدعم من قبل البرجوازية الغربية للأنظمة القومية العربية وغير العربية الفاشية في طول العالم وعرضه. ومع هذا يتبجحون علينا بالنموذج السوفيتي!
إن عدم تحملهم بقبول فقط فكرة أن تكون الشيوعية كنظام سياسي واجتماعي واقتصادي هي البديل في العراق، مرده غير مرتبط ابدا بعدم واقعيتها، أو مرتبط بإلحادها أو افتقارها للأخلاق، فهي كذبة تم الترويج لها وهم في قرارة انفسهم يعرفون محض هراء، ولكن الحقيقة التي تقف خلفها، أن الشيوعية تجردهم من استمرارهم بالنهب والامتيازات المالية والسلطة السياسية. فالشيوعية ببساطة تعني التمتع بالحرية والمساواة والرفاه، تعني الطبابة تكون مجانية والتعليم مجاني، وتوفير فرص عمل وبساعات عمل حسب قدرته والحصول على ما يكفي من ثمار عمله على سد حاجاته المادية، اي بعبارة يكون العمل جزء من قيمة الإنسان وليس وسيلة للعيش. الشيوعية تعني أن تكون هوية الإنسان هي المعيار، وحرية العقيدة والفكر مصانة، ويكون العالم الذي نعيشه، عالم خالي من العنف، عالم لا نقلق فيه على اطفالنا وعلى مستقبلهم، و تعني استئصال الثقافة الدونية والتي تحط من قيمة الانسان، والبشر متساوون، وتعني دفن كل أشكال التمييز الطائفي والديني والقومي والعرقي والجنسي في عمق التاريخ.
تخيل فقط لو تحولت الشيوعية الى واقع مادي وحياتي فهل تبقى فكرة، ومجرد فكرة في المجتمع تتحدث عن دونية الإنسان واستلابه والتفاخر به والترويج للطائفية بكل وقاحة وصلافة في فضائياتهم الممولة من سرقة جيوب العمال والموظفين والعاطلين عن العمال وكل محرومي المجتمع.
اما السؤال الآخر الذي يطرح نفسه لماذا الشيوعية غير ممكنة في العراق، بينما تحولت أكثر أشكال الوحشية الى نظامٍ سياسيٍ واجتماعيٍ في العراق. ما نريد ان نقوله ان حقانية المُثل الشيوعية والنظام الشيوعي هي ما يجب إظهاره وإعلانه ونضعه كبديل سياسي أمام خيارات المجتمع، في حين اكثر البدائل الوحشية التي جربتها الجماهير وتلفظها تطرح نفسها دون أن يرف لها جفن.
وببساطة أن المنافسة بين البدائل السياسية تشبه المنافسة عندما تذهب الى السوق لشراء سلعة معينة، فأنت تختار الافضل والاقل تكلفة بما تفي حاجتك. وهكذا هي الشيوعية التي لم تكن احدى خيارات المجتمع ولم تطرح كبديل منافس مع بقية البدائل البرجوازية وتياراتها السياسية، واصحابها اما رحلتها الى زمن اخر لتحقيق أجنداتهم القومية والتي لم تمت اي صلة بشيوعية ماركس او انهم طأطأوا رؤوسهم أمام البرجوازية واكاذيبهم وتخرصاتهم، والتي يقول عنها منصور حكمت لوضع الطوق في أعناق الطبقة العاملة وحركتها الشيوعية للحيلولة دون المطالبة بالتحرر والمساواة . وإذا كان المعيار لكل البشر في العالم هو الانسان، فكما يقول لنا ماركس أن الإنسان هو أثمن راس مال، ويعني لا يتحقق هذا المعيار إلا بالشيوعية.
واخيرا كما قلنا في مقالنا (النزعة الاشتراكية والتيار الاشتراكي في الانتفاضة): الانتفاضة التي أسدلت ستارها بمرارة، وهناك محاولات لإطفاء جمرتها التي ما زالت تشتعل تحت الرماد، تلك الجمرة هي جمرة الملايين من العاطلين عن العمل في العراق من الباحثين عن تأمين لقمة عيشهم للبقاء أحياء، وهؤلاء هم الذين أشعلوا انتفاضة أكتوبر، هي جمرة عمال العقود والأجور الذين لا يكفي ما يتقاضونه شهريا من تأمين اجور ذهابهم للعمل، جمرة النساء التواقات إلى المساواة، جمرة الذين يعيشون في البيوت الخربة التي تخترق سقوفها مياه الأمطار بينما تملئها من الأسفل مياه الصرف الصحي، في حين نرى مسؤولي الأحزاب الإسلامية والقومية والطائفية ومليشياتها أو أعضاء برلمانها، ومن يشغل المناصب الخاصة يفترشون القصور والأبنية التي استحوذوا عليها تارةً أو تدفع لهم بدل الإيجارات على الأقل ٣ مليون دينار شهريا ضمن مخصصات السكن تارة أخرى، جمرة أناس أرادوا علاج مجاني لأمراضهم المزمنة، جمرة بشر أرادوا أن يعيشوا أحياء بالحد الأدنى لآدميتهم.. هذه الجمرة التي لم تستطع حكومة الكاظمي المحتالة من اطفائها، والتي فاقت بالكذب جميع لصوص قادة الأحزاب الإسلامية التي تولت رئاسة الوزراء مثل المالكي والعبادي وعبد المهدي.
فاي بديل سياسي الاكثر كفاءة والاقل تكلفة بالخسائر البشرية والمادية والمعنوية في المجتمع العراقي من بقية البدائل السياسية سواء القومية او ما سميت بالديمقراطية او الاسلامية، وهذا هو الرد على السؤال هل الشيوعية ممكنة في العراق؟