يقال دائماً بأن قول نصف الحقيقة يساوي كذبة كاملة! هذا ما كان يمثل مبدأ
الإعلام السياسي في الماضي، وكان أمراً معتاداً، بالنسبة لاكثرية الصحف
والقنوات الإعلامية الغربية أثناء الأزمات والحروب والاحداث والتقلبات
السياسية طوال عشرات السنين. ولكن في الاحداث الأخيرة في فلسطين
وغزة بشكل خاص قد قلبت هذه المعادلة والظاهرة دراماتيكيا رأسا على
عقب وظهرت حقيقة هذه القنوات بدون تجميل ورتوش ودون ان تحكمها
هذه المقولة. على العكس بانت بوضوح حقيقتها وفلسفة وجود هذه القنوات
وهو تلبية ما تطالبها به حكوماتها وما ينسجم مع المصالح السياسية لبلدانها.
رأينا كيف وقف وبكى الاعلام الغربي على ما يسمى بمذبحة بوتشا في
أوكرانيا حيث ظهرت على الشاشات اعداد من القتلة وادانوا حالا القوات
الروسية بقتل المواطنين والان هم صامتين عن مذبحة غزة! يا له من نفاق
وازدواجية المعايير! هل دم المواطن الفلسطيني ارخص من الدم الإسرائيلي
او الاوكراني؟!
منذ اليوم الأول من الهجوم لحركة الحماس الوحشية على إسرائيل
ومستوطناتها في يوم السابع من أكتوبر، اهتم الاعلام الغربي بتكوين
صورة عن همجية ووحشية حماس فقط، إلى جانب بث الافتراءات
وتضخيم بربرية حماس مثل الادعاء بقيامها بذبح الأطفال واغتصاب النساء
في المستوطنات الإسرائيلية وكررت هذه الاقوال على ألسنة السياسيين
والإعلاميين على حد سواء، ومنهم الرئيس الأمريكي جو بايدن وأيده
السياسيون وحكماء الغرب حول هذه القصص والتي فُندت، من قبل بعض
المراسلين الميدانيين. انا بطبيعة الحال لست من المدافعين عن حركة حماس
و وحشيتها و رجعيتها و بربريتها وكذلك قمعها للشعب الفلسطيني واعمالها
الإرهابية بحق المواطنين الإسرائيليين الأبرياء وبعدها عن حل القضية
الفلسطينية، ولكن هنا نحن بصدد بربرية الاعلام الغربي والذي يتشدق دائما
بالحيادية وقول الحقائق بعيدا عن تأثيرات حكوماته او مموليه… والذي
يتشدق بالدفاع عن حرية العقيدة والتعبير عن الرأي و عن الديمقراطية
وحرية التظاهر وحرية الصحافة والاعلام… والتي نحن الاشتراكيون
انتقدنا المفهوم الطبقي لكل هذه المقولات والحقوق منذ بداية ظهورها اثناء
الثورات البرجوازية في القرن التاسع عشر ووضحنا حقيقة وجوهر
والتعبير الحقيقي والطبقي لهذه المقولات والمفاهيم السياسية والحقوقية
وارتباطها بالمصالح الطبقة البرجوازية. ولكن مرة اخرى ظهر الاعلام
الغربي بشكل اخر وبانحياز كامل وبكل امكاناته مع إسرائيل وسياساتها
الوحشية ويدافع بكل قوته عما تقوله وتقوم به حكومة إسرائيل.
ليس مستغربا ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من دمار ومجازر وقتل وإصابة
عشرات الالاف وتشريد مئات الالاف من مناطق سكنهم في غزة، تحت
حجة الدفاع عن النفس! أي دفاع عن النفس وهي التي قتلت عشرات
الاضعاف (ما قامت به حماس) من قتل للأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء
من الشعب الفلسطيني ؟! اي دفاع عن النفس وهي التي تفرض الحصار
الجوي والبري والبحري و تقطع المياه والغذاء والكهرباء والطاقة عن ٢.٢
مليون فلسطيني ويشبه وزير الدفاع الإسرائيلي الفلسطينيين بالوحوش
البشرية؟ اي دفاع عن النفس وهي التي تقصف العمارات وتدمرها على
ساكنيها ولا يزالوا تحت الأنقاض، او تقصف المستشفيات ومنها المستشفى
المعمداني في غزة وقتل ما يزيد على ٥٠٠ شخص غالبيتهم، من المرضى
والمواطنين الذين لجأوا الى المستشفى جراء تدمير مساكنهم ؟ ليس هذا
وحسب وانما يردد هذا الإعلام، ما تقوله إسرائيل بان من المرجح ان يكون
الحادث نتيجة صاروخ لكتائب القسام والجهاد الإسلامي؟ ان القتل والجوع
الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني يوميا في غزة لم ولن يكون موضوع
الاخبار القنوات الإخبارية الغربية. نشاهد يوميا كل المقابلات الإعلامية مع
الوزراء في حكومات إسرائيل الحالية والسابقة أو السياسيين الغربيين
الموالين لإسرائيل عن الجانب المظلوم (إسرائيل) ومعاناة وسرديات اليهود
طوال التاريخ ومن حق الإسرائيلي عن يدافع عن وجوده بكل الوسائل
الممكنة حتى وان كان على حساب قتل وتشريد عشرات الالاف من الشعب
الفلسطيني … يا له من عالم ان نرى في القرن الحادي والعشرين ان يدافع
بكل وحشية ووقاحة وبشكل صريح عن همجية إسرائيل وآلتها الهمجية
لقتل الفلسطينيين؟!
ان الغرب بأكمله وقف مع أمريكا سواءً في الحرب الأوكرانية-الروسية او
في إسرائيل، لان مصلحة أمريكا تطلب الدفاع المستميت عن مكوناتها في
الشرق الأوسط وهي إسرائيل. وليس من المهم ماذا يقول بقية العالم او كيف
يرى العالم هذه القضية؟ او كيف يرى المحرومون من الطبقة العاملة
والكادحة في جميع انحاء العالم هذه القضايا ؟ بكل بساطة مصير الغرب
سياسيا مرهون حاليا بمصير أمريكا، وامريكا نفسها تواجه تحديات
وجودية خطيرة مع صعود الصين القوي من الناحية الاقتصادية والتي
على وشك غزو العالم اقتصاديا وتدحرج مكانة أمريكا والغرب سياسيًا
واقتصاديًا إلى الهاوية يوم بعد يوم. ولهذا فان الدفاع المستميت للغرب عن
السياسات الامريكية في كل مكان في العالم؛ هو مصيريا بالنسبة لهم. ان
القيم الغربية المتمثلة بالليبرالية والتي تفتخر بها أوروبا وامريكا على المحك
وان فشل او سقوط أي دولة من دولهم هي بمثابة فشل لكل الأنظمة
الليبرالية الغربية … وان الاعلام يعكس هذه الأوضاع ومن اجل هذه
المصلحة لا تتوارى في حال، ان تغمض عينيها عن كل الحقائق وان تقول
فقط ما يكون في مصلحته.
ان احدى جبهات النضال الطبقي هي فضح كذب ورياء الاعلام البرجوازي
وخاصة الغربي والتي تهيمن تقريبا كليا على الاعلام العالمي. ان بيان
حقيقة ما يجري بدلائل وبيانات واستدلال سياسي واقعي بإمكانه ان يوقف
الاعلام الكاذب والموالي لمصالحهم فقط.
ان نشر المقابلات لأناس شرفاء ومقالاتهم ونشر وتقوية القنوات التي تقف
بجانب الحقيقة هي إحدى الوسائل الممكنة و هي نقطة بداية وكذلك ظهورنا
في القنوات ووسائل الاعلام لإظهار الوجه الاخر و الحقيقي لقضية فلسطين
والحروب اللصوصية الاخرى بين الأقطاب الدولية لتقسيم العالم حسب
مصالهم. لم يكن العالم مستاء من الاعلام الغربي في أي وقت أكثر من
يومنا هذا، ولم تكن البشرية تواجه الأكاذيب بهذه الوقاحة أكثر من يومنا
هذا. حان الوقت لكلماتنا ومفاهيمنا الإنسانية ان تسمع، كما كانت تسمع منذ
أيام كمونة باريس والثورة الروسية في ارجاء العالم قاطبة.