منْ أنتصر ومن الخاسر في هجوم إسرائيل على غزة؟!
“وقف اطلاق نار…؟!!
ان تعبير “ايقاف اطلاق النار” هو تعبير مخادع وكاذب. لم يكن الامر كذلك. لقد كان ايقاف حكومة نتنياهو لهجمتها وعربدتها من جانب واحد على جماهير قطاع غزة. ان تشيع وسائل الاعلام هذا التعبير، فأنها تهدف الى صياغة روايتها الموالية لإسرائيل. رؤية ان هناك طرفان هما حماس واسرائيل. علما ان لكلا الطرفين (اسرائيل وحماس) مصلحة في اشاعة هذا التصوير.
لا يقف الامر عند هذا. ان حجم الضحايا مؤشر واقعي وتأكيد عملي على صحة هذا الوصف. يقال ان حماس والجهاد والقسام اطلقوا 4 الاف صاروخ على اسرائيل. في تعظيم ارقام هذه الصواريخ هناك اطراف لها مصلحة في ذلك. اسرائيل: حتى تبين الخطر الداهم للإرهاب، و”قدرات الارهابيين” ووقوف ايران “الشيطان” خلف خلق هذه الامكانية، وبالتالي ارعاب جماهير اسرائيل والسيطرة عليهم عبر داعيتها واهدافها. الجمهورية الاسلامية في ايران: كي تبين للعالم ان اياديها طويلة، وانها تصل اي مكان تريد، وان لديها اوراق كثر لإخافة خصومها. حماس وما يسمى بـ”المقاومة الاسلامية”: كي تبين ان لديها قدرات، وانها قوة و”رقم” يصعب حذفه من المعادلة وانها رمز مقاومة الفلسطينيين لإسرائيل، وبالتالي انها من لها الحق حصرياً، في التحدث باسم جماهير القطاع.
ان جميع هذه القوى المعادية لجماهير فلسطين ذات مصالح في خلق هذه التشويشات وهذه الاكاذيب كل من اجل غاياته الوضيعة.
رغم كل صواريخ حماس هذه، الا ان ضحاياها لم تتعدَ 12 شخص، من بينهم فلسطينيون واطفال! ومن المؤكد إننا ضد كل تعرض لأمان المدنيين سواءً في فلسطين او اسرائيل للمخاطر. اذا ما قارنا هذا الامر بالضحايا التي وقت بين الفلسطينيين والتي بلغت اكثر من (250 قتيل والاف الجرحى) يتبين ويتأكد انها لم تكن حرباً. بل كانت حملة احادية الجانب ضد جماهير قطاع غزة.
منْ أنتصر؟!
كلا الطرفين، كلا اليمينين: اليمين الاسرائيلي واليمين الفلسطيني. حتى نعرف من انتصر، ينبغي ان نعرف اهداف كل طرف، ومدى تحقق هذه الاهداف.
نتنياهو واليمين الاسرائيلي: ان هدف اسرائيل هو، مثلما قلنا حرف الانظار عن ازمته الداخلية. لقد تحقق هذا الهدف. وانتقل نتنياهو من رئيس وزراء على ابواب تقديم استقالته الى قائد سياسي حشد قوى اليمين حول شخصه وظهر بوصفه “حامي حمى الاسرائيليين”، “المدافع الصلد عن امانهم”، “رمز محاربة الارهاب” والخ. تحول الى “بطل قومي”، “بطل الامة اليهودية”، بحيث عصفت رياح حملته هذه بموضوعة الاستقالة او الاقالة وجعلتها من الماضي. ولهذا، لقد تحققت اهدافه، على حساب خسائر تقدر ب2.2 مليار دولار في وقت يغط البلد في ازمة اقتصادية عميقة وما يرافقها من بطالة وعوز وحرمان كبير للأغلبية الساحقة. وفي الوقت ذاته، دفع الامور بعيدا عن محاكمته بالفساد وغيرها.
لقد تحققت اهدافه الوضيعة على حساب مصائب ستبقى كجراح على جسد اجيال واجيال. ولهذا، خرج “منتصراً” من هذه الحملة البشعة. لكن ينبغي ان لا يغيب عن بالنا حقيقة وهي ان انتصار نتنياهو انتصار عابر، وقتي. فكل الوقائع تشير الى ان غمامة الوهم بمبررات نتنياهو واليمين ستنجلي في المدى القريب، وليس حتى المتوسط. ستتكشف بسرعة الاهداف الواقعية لحركة نتنياهو هذه وتتجلى للراي العام العالمي، وبالأخص في اسرائيل نفسها. من جهة اخرى، لم يحل نتنياهو اي معضلة، بل عقد الامور كثيراً!
اما اليمين الاخر، حماس والجهاد الاسلامي بدرجة اقل، ولو وضعنا كل دموع التماسيح الكاذبة، فقد كانت الهجمة طبق من ذهب لهما، يوم منى. ظهرت حماس بوصفها ممثل مقاومة جماهير فلسطين بوجه الظلم الاسرائيلي، وكمدافع “صلد” امام اسرائيل، وكقوة لا سياسية فحسب، بل عسكرية ايضا.
عززت من مكانتهما السياسية على الصعيد المحلي وكذلك على الصعيد العالمي. على الصعيد المحلي، دفعت بميزان القوى تجاه خصمها الاساسي، محمود عباس وفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية اللذين يرزحون بالفساد والدوس على حاجات جماهير فلسطين، لصالحها كثيرا. ولهذا ليس امرا من فراغ ان يتحدث وزير الخارجية العراقي، فواد حسين، بما معناه ان (لانقبل ان تترك هذه الامور تأثيرها على مكانة محمود عباس!). وبالأخص، كان من المفترض ان تجري انتخابات في هذه المدة. ولهذا، وعلى الصعيد الاقليمي والدولي، اصبحت طرف في اي مفاوضات او مشاورات او… سياسية مقبلة تتعلق بمستقبل او مصير لقطاع غزة.
وترسيخاً لمكاسبها هذه، بعد ان تم “وقف اطلاق النار”، وقبل ان تقوم باي شيء من شانه تخفيف اثار الحرب على جماهير غزة التي تفتقد للماء والكهرباء وسائر الخدمات، بل وقبل ان تستكمل رفع الانقاض لأنه لا زال هناك ناس تحتها، حتى قامت حماس والجهاد باستعراض عسكري اخر في شوارع القطاع. استعراض لا يستهدف سوى “تعظيم النفس والقوة”!! انها حماس الفاسدة والمعادية للمدنية وللعامل والمرأة وكل شكل من اشكال التحرر والمساواة. حماس التي تنال سنويا مئات الملايين من الدولارات سنويا من الاتحاد الاوربي ومن الدول العربية والمنظمات الدولية دون ان يعلم احد ان تذهب! فلا خدماتها معلومة، لا ماءها، لا كهرباءها، لا…وجوع وفقر مدقع قل نظيره دون ان يكون لها اي دور في تخفيفه!
منْ الخاسر؟!
ان الخاسر الوحيد، هي جماهير فلسطين بالدرجة الاولى. جماهير فلسطين التي عانت الاحتلال، الظلم القومي والديني، التطهير العرقي، المواطنة من الدرجة الثانية، سياسة الارض المحروقة وغيرها. الخاسرون هم كل دعاة الحرية والمساواة في فلسطين واسرائيل… جبهة التمدن في العالم.
الخاسر هي تلك القضية المعلقة التي صدرت من اجلها عشرات القرارات الدولية، قضية الظلم الفلسطيني. بتقوية اليمين على كلا الجانبين، توضع عراقيل اكبر واكبر امام حل عادل لهذه القضية. اليوم اكثر من اي وقت مضى لا يعرف احد الى اين ستصل هذه القضية. الادهى من هذا هو التساؤل المشروع الى اي مدى يبقى هذا الجرح نازف، والى اي مدى تبقى هذه الدوامة المأساوية؟!
تعقدت الاوضاع إلى حد بحيث ان الرئيس الاسرائيلي نفسه يحذر اليوم من مخاطر اندلاع حربية اهلية جراء انقسام المجتمع الإسرائيلي وتشظيه. لقد تعدت المشكلة فلسطين والاحتلال الاسرائيلي للضفة والقطاع، بل اصبح التصعيد والتشنجات والصراعات القومية والدينية بين العرب داخل اسرائيل (الذي يبلغ نفوسهم اكثر من مليونين ونصف) والاسرائيليين الى حدود رهيبة. اعتداءات متبادلة، شن هجمات فردية وجماعية متبادلة، قتل عزل وابرياء، هجوم على بيوت بعض والخ. وهذا الخطر هو خطر كبير ينذر بعواقب وخيمة. وان مثل هكذا ميدان هو بالطبع ميدان خصب لليمين، ينتعش فيه.
بهذه الاوضاع، تتسع ارضية اليمين ويحشد القوى حول نفسه. اليسار يضعف، جبهة اليسار تضعف، الانسانية تضعف، وكل المشاعر السلبية والمعادية للإنسانية تقوى. ولهذا، فالخاسر هي جماهير فلسطين واسرائيل بالدرجة الاولى، والانسانية والتقدمية. وان هذا الوضع سيترك عقبات كأداء امام شفافية الصراع الطبقي والنضال التحرري الاشتراكي في المنطقة اجمالا. تشغل قضية فلسطين ذهن وعقل وروح وحياة المنطقة كلها، ولها تأثير على مناطق واسعة من العالم، وان استمرار هذا الصراع يقف بالضد من الشفافية الطبقية والصراع الطبقي الشفاف والطبقة العاملة والاشتراكية والتحرر والمساواة.
مدى امكانية طرح دولة واحدة علمانية للجميع!
يصعب طرح (دولة واحدة غير قومية وغير دينية وعلمانية) كثيرا بوجود مثل هكذا يمين وهكذا اوضاع. وان بقاء هذه الاوضاع دون حل (انهاء الاحتلال واقرار اسرائيل بدولة فلسطين) لا يدفع الامور نحو اليسار. بل على العكس الى اليمين اكثر واكثر. ان حل قضية فلسطين هي من تدفع الوضعية نحو اليسار. ولهذا من هذه الناحية، لا نرى طرح دولة اسرائيل يتعايش فيها الفلسطينيين والاسرائيليين سوية امر واقعي من الاساس. لأنه، وببساطة، الثقة معدومة، وبالأخص ثقة الفلسطينيين بالإسرائيليين.
هناك ميزة في هذه الاوضاع، انها لفتت انظار العالم مرة اخرى الى هذه القضية، الى احتلال اسرائيل والظلم الفلسطيني. اليوم حتى على صعيد امريكا، والنخب السياسية الامريكية، هناك، لنقل، توجه مرئي، وهو وجوب حل هذه القضية، لا يمكن ان تبقى للابد. انه توجه لنوع من التفهم، درجة حتى ولو كانت صغيرة من السعي لحل المسالة وفق طرح الدولتين. بدون حل الدولتين، وبدون ان يكون للفلسطينيين دولة، لا يمكن الحديث عن كسب الثقة ومد جسور الثقة على صعيد اجتماعي واسع. ولهذا حتى لو يستلم الشيوعيون السلطة في اسرائيل، يجب ان يحلّوا هذه القضية وفق حل الدولتين.
ان طرح دولة واحدة علمانية وغير قومية وغير دينية يعيش فيها العرب واليهود، الفلسطينيين والاسرائيليين سوية، تعبر عن امنيات ايديولوجية، الانطلاق من مرجعية ايديولوجية، تعامل ايديولوجي اكثر من انه امر سياسي واجتماعي واقعي وحياتي. انه جزء من الوفاء للأيديولوجيا اكثر منه وفاءاً لحاجات المجتمع والحلول السياسية العملية الفورية لقضاياه غير قابلة للتأجيل.