خدمة أي علم، وصندوق أي أجيال !!
غرد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على صفحته في تويتر يوم الثلاثاء 31 آب، قائلاً”
أنجزنا اليوم ما تعهّدنا به منذ لحظة تسلّمنا المسؤولية أمام شعبنا والتأريخ، بإقرار “خدمة العَلم” التي ستكرّس القيم الوطنية في أبنائنا، وطرحنا مشروع “صندوق الأجيال” الذي سيحميهم من الاعتماد الكامل على النفط، ومعاً سنمضي إلى الانتخابات المبكرة وفاءً للوعد. العراق خيارنا الوحيد.”
بعد ما كان مجلس الوزراء قد وافق خلال جلسته الأسبوعية على مشروع قانون خدمة العلم الذي أعاد النظر فيه مجلس شورى الدولة، وأحاله إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره في جلساته المقبلة.
وخدمة العلم، قبل الخوض والتطرق إلى الجدل الذي أثير حولها وسيثار من نقاشات مؤيدة وناقدة لها، المقصود منها الخدمة الإلزامية التي تفرضها الدولة على أعمار معينة من الشباب بين 19 وحتى 35 سنة، من مختلف المستويات العلمية لأداء “خدمة الوطن والدفاع عنه”، دون مقابل يذكر عادةً.
وخلال أيام معدودة واجهتْ هذه الخطوة الحكومية، وابل من النقد توجه إليها من عدة جهات جماهيرية وحقوقية ومدنية، يرون فيها مخالفة لحقوق الإنسان لإجبار الآخرين وإلزامهم على عمل يتعارض مع حرياتهم وإراداتهم الشخصية، فضلاً عن إن نصوص القرار المقترح تحدد مدة الخدمة حسب الشهادة الدراسية، وبهذا تكريس للتفاوت في التحصيل الدراسي وآثاره النفسية السلبية على المنخرطين في هذه الخدمة.
وعدّهُ آخرون عسكرة للمجتمع. وباب واسع يُفتح أمام الفساد. واقتصاديون يرون في هذا القرار زيادة إضافية في الإنفاق العام في الوقت الذي يتجه العراق نحو تقليص الإنفاق، والانتهاء من سداد ما ترتب عليه من دفع تكاليف حرب الكويت.
وفي المقابل هناك مؤيدون لهذا القرار، أختزلها أحد القادة العسكريين بتصريح بأنه ” سيمكن “الشاب من تعلم المصاعب، فضلاً عن فوائد أخرى تحتم أهميتها (خدمة العلم) ويفترض على كل شخص في بلده يحترم (خدمة التكليف) حسب الشهادة، ( القانون) يصنع رجالاً أبطال ويقضي على البطالة ويتعلم الجندي القانون والصبر، وبالتالي هذا القانون يحمل إيجابيات كثيرة”، ولم يزد في الشرح عن ماهية هذه الإيجابيات.
لكن هذا القائد العسكري أقترب من الحقيقة وربما دون إدراك منه، أو عبّر حسب ما يدور في مخيلته العسكرية، عندما ذكر بأن هذا القرار سوف يقضي على البطالة ويعلّم الجندي القانون والصبر. لأن حدود فهمه للقرار لا تتعدى حدود اختصاصه المهني. ولم يدرك لا هو ولا آخرين سواه المغزى السياسي الذي دعى السلطة باجتراح هذا القانون وما المناسبة وما الداعي إليه في هذا الوقت بالذات، بعد إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية منذ 18 عام، بقرار من الحاكم المدني بول بريمر، وبتأييد من جميع الأحزاب المؤتلفة في السلطة منذ ذاك التاريخ حتى اندلاع انتفاضة اكتوبر.
القرار واضح ولا يحتاج إلى كثيراً من الفطنة لمعرفة ما الغاية منه، فهو قد جاء لاستهداف الشباب العاطلين عن العمل من الأعمار التي حددها للتجنيد الإلزامي، الذين كانوا قبل فترة قصيرة جنوداً من الطراز الجسور، في التصدي والمواجهات العنيفة مع أحزاب السلطة وميليشياتها. الذين طالبوا بالعمل والتوظيف والخدمات والحريات… خلال انتفاضة أكتوبر. هذه المطالب التي لا تستطيع السلطة تلبيتها، أو لا يدخل ضمن أجنداتها السياسية ولا من أولويات عملها وبرامجها بصفة عامة.
والغاية … من أجل قتل روح التمرد عند الشباب، والحماسة الثورية المتأصلة فيهم وإحالتها إلى روح مذعنة وخانعة، وتشتيتهم في الثكنات العسكرية في مختلف مناطق العراق بدل تجمهرهم في ساحات الاعتصام ومراكز الانتفاضة. ومطاردة المتغيبين والمتخلفين منهم عن هذه الخدمة، والأسوأ والأكثر خطراً من كل ذلك تدريبهم على تلقي الأوامر دون رفض أو احتجاج، من أجل تطويعهم لبرامج الطبقة الحاكمة، مهما كان ضررها عليهم كأفراد أو ضد المجتمع، وجعلهم أدوات جامدة لا تنبض. والحجة جاهزة، وذلك من أجل “خدمة الوطن”، بعدما كانوا ينادون مرددين طيلة عشرين شهراً ” نريد وطن”.
والكذبة الأخرى الواردة في تغريدته، التي يجب علينا أن لا نبتلعها كما ابتلعها آخرون. “مشروع صندوق الأجيال” أو ما يُعرف دولياً بالصندوق السيادي. الذي تُودع فيه أموال مستقطعة من عائدات النفط كمدخرات لحاجات مستقبلية، وهو غير صندوق الاحتياطي النقدي الأجنبي. الأموال المقصودة هذه كانت أصلاً تستقطع كمبالغ تعويضية لغزو صدام حسين للكويت، البالغ قيمتها 53 مليار دولار، التي توشك بعد أشهر قليلة على اتمام سداد هذا المبلغ نهائياً. وتفطّن أحد المستشارين الاقتصاديين، بجعل هذه الاستقطاعات بعد الانتهاء من تعويض الكويت إلى إيداعها في صندوق أطلقوا عليه صندوق الأجيال، وهو في الحقيقة يرمي إلى غير ضمان مستقبل الأجيال، لهدف بعيد كلياً.
من المستحيل أن يسلم أي مشروع أو برنامج حكومي ما، وفي مقدمتها مشاريع الاستثمارات بالذات من المحاصصة مع شكل النظام الحاكم هذا وطريقة إدارته للسطلة في العراق، ومع وجود أحزاب الفساد الحاكمة الغنية عن التعريف بفسادها، وسطوة المافيات المسلحة وهيمنتها على مفاصل الدولة. وفق هذا الحال والواقع سيؤول مصير مشروع صندوق الأجيال إلى باب من أبواب الفساد جديداً للإثراء والنهب العلني والمستور.
كما حصل مع صندوق التقاعد الذي أوشك على الإفلاس بسبب سيطرة الفاسدين على إدارته ونهبهم لأمواله. وكما حصل في قطاع الكهرباء وإنفاق عشرات وربما بالحقيقة مئات المليارات دون نتيجة في تحسين واقعها البائس أبداً. ولا يكاد مكان يخلو بالمرة من فسادهم وطيشهم غير المسؤول، فكيف بالمستقطعات 3% من عائدات النفط المخصصة لتعويض الكويت، والمقترح تصنيفها بعد الانتهاء من التعويض كمدخرات في صندوق استثماري. أي خبراء نجدهم يخططون من أجل الاستثمار، وبأي مشروع استثماري سيضعون هذه فيه الأموال سوى جيوبهم وحساباتهم المصرفية التي لا تعرف الحد لشراهتها. ولاسيما وإن هذه الأموال رغم جسامتها غائبة حقيقتها عن الجماهير، أو أُبعدت عنها عمداً على مر توالي الحكومات وتعاقبها على السلطة، وكانت بمثابة شيء مهمل، والآن تنبه إليها الفاسدون يسعون لاستثمارها على طريقتهم.
عن أي أجيال يتحدث المنافقون، زمرة الكاظمي وبطانته، وعن أي منفعة يمضون إليها. فهو (الكاظمي) يتميز عن اسلافه رؤساء الوزارة السابقين، بالنفاق المكشوف باعتماده سياسة ( تجبير الكسور)، نراه يتظاهر أمام الإعلام بالحنق والحيف لما يُحيق بالأبرياء من جور على يد العصابات وسلاحها المنفلت، من قتل وخطف وابتزاز وتهديد…
والنفاق السياسي هذا هو في جزء منه مشاركة في الجريمة، لأنه بحكم موقعه على بينة، بل شاهد عيان على ما يحصل ويدور، من جرائم وجميعها علنية. وقعت دون خشية من أي حساب.
ولو كانت حكومته ونظامه عموماً، حريصاً بحق على الأجيال ومستقبلهم، لما ترك حبل الميليشيات على غاربها، وترك الفاسدين ينهبون بوضح النهار، وتركوا جميعهم البلد غارق بالفوضى والفساد والتبعية لدول الجوار. هل يتذكر الأجيال ويحرص على مستقبلهم على سبيل المثل مقتدى أو المالكي أو هادي العامري… إلى آخر التشكيلة الجهنمية التي ضيعت العراق وضيعت أجياله في أتون البطالة والتشرد، ونقص الخدمات والقمع الدموي، والتخلف والبربرية. ليس بوسع أي شخص يتمتع بأدنى حد من البصيرة، أو من المسؤولية أمام ضميره أن يأتمن بعهود هؤلاء ومن لا عهد لهم.