لم يكن الجيش في أي يوم من الأيام، ولاسيما في التاريخ الحديث، أي منذ تأسيس الدولة القومية؛ بعد بزوغ النظام الرأسمالي، عزّ (الوطن) ولا هو شرفه، فالجيش هو جزء من آلة الدولة القمعية، وكان دائما عزّ الطبقة البرجوازية الحاكمة، وشرف الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والسياسية وترسيخ أركان سلطتها، وكما يقول ماركس؛ بأنَّ هذا التصور الخادع والكاذب الذي روجته البرجوازية ذاتها، بأن الدولة فوق المجتمع وهي محايدة، بينما نراها في المنعطفات التاريخية والأزمات، وعندما تهتز أركان سلطة الطبقة البرجوازية تخرج عن حيادها الواهم والخادع لتقمع كل من يعترض قوانينها وهيبتها وتعريض مصالحها إلى الخطر، فالجيش كان دائما عدو الطبقة العاملة والكادحين والمحرومين، وليس هذا فحسب بل أنَّ الدولة موَّلت آلة الجيش تلك، عن طريق فائض القيمة الذي ينتزع من العمال، والضرائب التي تفرض عليها والثروات التي تستحوذ البرجوازية عليها عن طريق النهب والسلب، وفي نفس الوقت يغذون تلك الالة عبر الخداع والتظليل وقوانين العقوبات بنفس أبناء الطبقة العاملة والكادحين، ويسوقونهم إلى محرقة مصالحهم ليقتلوا فداءً للحفاظ على عز وشرف الطبقة التي تستحوذ على ثروات المجتمع.
*****
بعيد احتلال العراق تمَّ حل الجيش العراقي من قبل الحاكم المدني للاحتلال بول بريمر، وتم إنهاء قانون الخدمة الإلزامية، وقد لاقى ذلك ترحيبا واسعا من قبل كل الموجودين اليوم في سدة السلطة من الشخصيات القومية والطائفية التي نصبتها قوات الاحتلال الأمريكي في مجلس الحكم ليتم بعد ذلك تعويم أحزابهم لحكم العراق عن طريق تدريبهم وتأهيلهم وتعليمهم كل أبواب الفساد، كان ذلك جزء من خطة أمريكية وبموافقة وانسجام وتهليل تلك القوى الإسلامية والقومية الكردية، لإعادة هيكلة المجتمع العراقي سياسيا واجتماعيا وفكريا واقتصاديا كي تتلاءم مع السياسة الأمريكية التي لم تكن أكثر من هيمنة سياسية واقتصادية من خلال مشروعها (الشرق الأوسط الكبير)، وهذه الهيكلة لم تكن ترى النور دون تغيير او اجتثاث العقيدة العروبية والقومية المحلية (الوطنية) من المجتمع الذي طبعت به وطبعت بها الدولة عبر أربعة عقود من سلطة البعث القومية. أي بمعنى آخر، جاء المشروع الأمريكي منسجما مع البرنامج السياسي والأيديولوجي والعقائدي لجماعات الإسلام السياسي الشيعي او للقوى القومية الكردية. و كل التصريحات والحوارات التي تأتي من هنا وهناك من قبل تلك الجماعات عن تحميل ما آلت إليه الأوضاع الامنية والسياسية في العراق بحل الجيش العراقي وتسويقه على انه خطأ أمريكي، ليس اكثر من نفاق سياسي وكذب امتهنته تلك الجماعات التي تتلمذت على يد محترفي ومزوري الحقائق أي الاحتلال الأمريكي، وكان قرار حل الجيش بمثابة جزء من تلك الخطة لإنهاء العقيدة القومية التي تأسس عليها الجيش العراقي، ولذلك لم يجنح اي طرف من أحزاب الإسلام السياسي طوال سنوات الاحتلال وحتى في ثلاث دورات ونصف لحكم الإسلام السياسي بدعم الأحزاب القومية الكردية نحو تشريع قانون الخدمة الإجبارية او التجنيد الإجباري.
اليوم ومثلما تحدثنا في عدة مناسبات، يأتي موضوع أو قانون التجنيد الإجباري (الإلزامي) ضمن مشروع أكبر للتيار القومي العروبي والمحلي الذي استرد زمام المبادرة عبر الصعود على أكتاف انتفاضة أكتوبر والذي يمثله اليوم الكاظمي، فقانون التجنيد الإجباري هو جزء من رزمة متكاملة للمشروع السياسي لذلك التيار كي يتحول إلى قوة سياسية وينهي الصراع على السلطة ويزيح القوى المليشياتية للإسلام السياسي ويقوّض النفوذ الإيراني في العراق، فالتيار القومي اليوم بالرغم من استرداد زمام المبادرة في العراق وبالرغم من امتلاكه لبرنامج اقتصادي تمثّل في الورقة البيضاء، ويحظى بمساندة إقليمية من الأنظمة القومية في الأردن ومصر وقد توج ذلك بعقد قمة بغداد، وقبلها الدعم المالي السعودي والإماراتي المهول لحكومة الكاظمي وقبلها تأسيس قناة إعلامية خاصة (MBC العراق) ورؤية لإعادة تأسيس مشروع الدولة، إلا أنَّ هذا التيار لا يمتلك الأداة الضاربة او القوة القمعية لتنفيذ مشروعه على أرض الواقع. فسلطة الإسلام السياسي الشيعي التي حاولت خلال ما يقارب من عقدين من بناء مشروعها السياسي على انقاض ما هدمته آلة الاحتلال من الدولة (القومية العروبية والوطنية) وبمعيتها كل المفاهيم السياسية والاجتماعية التي أنشأت على أساسها، وبالرغم من أنها لم تنجح فيما سعت إليه، إلا أنها ما زالت تقف حائلا ضد المشروع العروبي في العراق وتقاومه بشكل دؤوب. فكما يعبر عنه خامنئي عبر ممثليه من قادة فيلق القدس سواء كان سليماني او قاآني مع كل لقاء مع ممثلي البيت الشيعي، (وحدة الطائفة فوق وحدة الوطن). وعلى هبوب الغبار الذي تصاعد مع تقدم داعش في حزيران ٢٠١٤ حاولت تلك السلطة من تأسيس آلتها القمعية وهي الحشد الشعبي لبناء مشروعها إلا أنها ارتطمت بالممانعة الإقليمية والدولية، ورفض شعبي كبير الذي جاء عبر انتفاضة أكتوبر.
*****
إنَّ مشروع قانون التجنيد الإجباري الذي أشرنا إلى بنوده هو تعبير عن ظلم طبقي سافر، ويعكس الماهية المعادية لحكومة الكاظمي مع مصالح الجماهير، هذا ناهيك عن الجانب الحقوقي الذي سوف يأتي ذكره لاحقاً.
من الملاحظ أنَّ بنود المشروع تشير إلى أنَّ من لم يكمل تعليمه فإنَّ مدة خدمته سنتين، والسؤال المطروح من الذي وقف بوجه أبنائنا بعدم إكمال التعليم؟ من الذي دمر البنية التحتية للتعليم، ومن الذي حول أطفالنا إلى باعة مفرق في الشوارع وهم في عمر الزهور كي يعولوا عوائلهم؟ في الوقت الذي لابد أن يكونوا على مقاعد الدراسة، ومن الذي وضع خطة لخصخصة التعليم وتحولت تأسيس الجامعات الخاصة من الأموال المنهوبة والمسروقة من جيوبنا إلى أكبر المنابع لدر الأرباح على رجالات العملية السياسية والتي يتقدمهم المالكي وجامعته (الأسراء) وسط بغداد؟ وأصبحت عائقا أمام الآلاف من الشباب إناثا وذكورا لتكملة دراستهم الجامعية كي يتجنبوا كمين الكاظمي ومشروعه التجنيد بالإكراه.
أما الجانب الحقوقي من المشروع، فهو يتناقض مع كل مبادئ حقوق الإنسان، فمقولة (الإجبار) او (الإلزام) تعني الإكراه وهي تعسف سافر ضد خيار الإنسان، ولعل قصة محمد علي كلاي الذي رفض الخدمة العسكرية والذهاب إلى فيتنام، والذي تحول إلى رمز شعبي في حقبة الحرب الفيتنامية، بانها حربا غير عادلة، هو نموذج عن رفض التجنيد الإجباري وخيار الإنسان بعدم الذهاب إلى الحرب، والسؤال هو أية حقانية كانت في الحرب الأمريكية على فيتنام، واي عز وشرف كان لذلك الجيش الذي قتل أكثر من مليون إنسان لمجرد رفضوا الهيمنة الأمريكية، هذا ناهيك عن كل التاريخ الاستعماري للجيوش الفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية. الخ.
أن حقانية مشروع قانون التجنيد الإجباري تأتي من خلال فرضه بالقوة على البشر، فكل الحروب التي قادتها الدول لم تكن عادلة، وخاصة في العراق ومنذ تأسيس دولته، وتوج تاريخه بالانقلابات العسكرية بدء من انقلاب ١٩٣٦ و١٩٤١ و١٩٥٨ و١٩٦٣ و١٩٦٨ وتدمير القرى الكردية وتغييب ١٨٢ ألف إنسان ناطقين بالكردية وجريمة حلبجة وتجفيف الأهوار وقمع انتفاضة آذار. الخ. الم نذكر ما عشناه ورأينا من الإعدامات الجماعية في ملاعب كرة القدم المحلية او فرق الإعدام في الخطوط الخلفية في الحرب العراقية-الإيرانية، اي شرف كان لهذا الجيش وأي عز للوطن بناه هذا الجيش، هل كان لنا خيار مثل محمد علي كلاي بالرغم من تقديمه لمحكمة عسكرية وتحول إلى قضية رأي عام، نقول هل كان لنا خيار رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية والذهاب إلى الحرب العراقية-الإيرانية، ألم تأخذ سلطة البعث ثمن الرصاص الذي قتل به الرافضين للخدمة العسكرية من أهاليهم. هل كانت الحرب العراقية-الايرانية حربا عادلة بالنسبة لجماهير العراق التي ارسلت الى محرقة الدفاع عن البوابة الشرقية للامة العربية بينام كان رجالات البعث من صدام حسين وقصي وعدي وحسين كامل وطارق عزيز ومن لف لفهم ينعمون بخيرات النفط مثلما ينعم اليوم المالكي والعامري والخزعلي وصالح والحلبوسي والخنجر والصدر والقائمة اطول من قائمة رجالات البعث. إنَّ ما نريد أن نقوله هو أنَّ التجنيد الإجباري هو تعدي سافر على الحرية الإنسانية ولا يمتلك أية حقانية غير الإكراه، على أنَّ كل المبررات التي تروج لتسويق وإقناع الرأي العام بالتجنيد الإجباري عن استنهاض قيم الرجولة وإنهاء الميوعة ليس اكثر من ترهات، فهي سياسة لبناء بنية استعبادية وخاضعة خانعة لخلق نوع من البشر تخدم الطبقة السياسية الحاكمة، وتنفذ ما يطلب منها بشكل اعمى.
أما الجانب الاقتصادي من المشروع، فيكشف عن كل ألاعيب حكومة الكاظمي؛ بأن الدولة لا تمتلك مالا ويجب فرض سياسة التقشف، واستقطاع نسب تصل إلى ٢٠٪ من رواتب ومعاشات العمال والموظفين والمتقاعدين، وفرض الضرائب على المحروقات والاتصالات، بينما هي تملك تمويل جيش كبير من المجندين يدفع لهم بين ٥٠٠- ٧٠٠ ألف دينار حسب بنود المشروع المذكور. وعندما نتحدث عن حقانية ضمان بطالة ونطالب بالحد الأدنى كما يحدد قانون العمل بمبلغ ٣٠٠ الف دينار شهريا، تنقلب الدنيا ولا تقعد، ويقولوا لنا أن الدولة ليس لديها أموال، وان اقتصاد العراق ريعي، وأسعار النفط انخفضت، وأن مطالبكم خيالية وغير واقعية. الخ من الأكاذيب والهراء، فالكاظمي لم يأهل مصنع واحد من المصانع التي وعد وزيره للصناعة بإعادة تأهيل وتشغيلها ويصل عددها إلى ٢٠٠ مصنع وهي من كبريات المصانع في الشرق الأوسط، ولم يخصص ميزانية لها تتجاوز ميزانية الوقف السني والشيعي الذي رصد له بأكثر ٢ مليار دولار ، لتوفير فرص العمل، إلا أن الأموال جاهزة لبناء جيش جرار. أن المفارقة التراجيدية في مشروع التجنيد الإلزامي، هي أن حكومة الكاظمي التي تحاول أن تمثل قوانين الدولة تستغل الوضع الاقتصادي للشباب كي تجندهم عبر استغلال البطالة في صفوفهم، فيما تستغل القوى الولائية للجمهورية الإسلامية اي المليشيات نفس الوضع الاقتصادي كي تجند الشباب وترسلهم إلى محارقها الطائفية بدلا من محارق الكاظمي القومية التي يعد لها، أن الكاظمي لمرة أخرى عَبّرَ بمشروعه عن وجهه المعادي لمحرومي المجتمع وأبناء الطبقة العاملة مثلما كان في ورقته القبيحة التي سماها البيضاء.
*****
وأخيرا فإنَّ المضحك في هذا المشروع على الصعيد السياسي، هو سعي هذا التيار الذي يمثله الكاظمي بوضع العربة أمام الحمار وليس الحصان، فاللحمة الوطنية التي يحاول إقناعنا بها عبر التجنيد الإجباري ليس أكثر من نكتة سمجة، فبناء العقيدة في المجتمع وأي كان منبعها الأيديولوجي يبدأ بماهية السلطة، والسلطة الموجود هي سلطة طائفية بامتياز، إلا أنه الكاظمي وحكومته الفاشلة وبدلاً من رفع راية مشروع وهوية للدولة التي يحاول بنائها، مشروع دولة غير قومية وغير دينية، دولة قائمة على معاملة البشر على أساس المواطنة، دولة تنهي كل أشكال التمييز الطائفي والديني والجنسي، يأتي لنا بمشروع بناء آلة قمعية جديدة لإعادة اللحمة الوطنية كما يدعي، وهي في الحقيقة الاسم الحركي والسري للحمة الطبقية، أي إنهاء التشرذم السياسي للطبقة البرجوازية وتوحيدها وقيادتها من قبل التيار القومي عبر آلته القمعية الجديدة او التجنيد بالإكراه.