بيان مجلس الأمن الدولي عن الانتخابات التي جرت في ١٠ تشرين الأول يكشف عن مسالة واحدة لطالما تم التغاضي عنها أو عدم الاكتراث لها، وهو اضفاء الشرعية على الانتخابات و مسعى لتدارك أية ضربة استباقية لمن يحاول تعكير صفو استمرار العملية السياسية. وهو أي البيان رسالة واضحة، بان لا بديل للتغيير في العراق الا عبر صناديق الانتخابات وبصورة شكلية بحيث لا تمس الامن الاقتصادي العالمي، الذي يتلخص بعدم زعزعة موقعية العراق في تقسيم الانتاج الرأسمالي العالمي الذي يعني صناعة النفط. وبشكل آخر يقول بيان مجلس الأمن ان العملية الديمقراطية لن تتجاوز صناديق الانتخابات لإعادة انتاج البرلمان وهي قدر الجماهير في العراق وعليها ان تقبل بها. وليس مهما نسبة المشاركة في الانتخابات حتى لو قاطعتها اكثر من ٨٢٪ من الجماهير، فالمهم هو نفس العملية الانتخابية. وهذه هي رسالة ذات شقين، الأول أن البديل البرجوازي في العالم هو البرلمان، وعبر انتخابات هي من تضع قواعدها سواءً على صعيد الانفاق المالي أو على الصعيد الامني او على الصعيد الاعلامي مع الاختلاف بدرجات كل واحد حسب أوضاع البلدان التي تجري فيها الانتخابات. أما الشق الثاني هو الحيلولة دون اندلاع انتفاضات وثورات تقلب كل المعادلة السياسية. فأكثر ما تثير الرعب في قلب الطبقة البرجوازية هو الانتفاضات والثورات كما راينا في الثورتين المصرية والتونسية التي جاهدت جميعها كطبقة موحدة لقلبها وتشويهها وتحريف مسارها وتحويلها الى صراعات طائفية وفي بعض الاحيان اذا اقتضت الضرورة الى حروب اهلية عبر فتح أبواب الاقفاص لإخراج كل الجماعات الاسلامية الارهابية في المنطقة مثلما شاهدناه في ليبيا وسورية واليمن. وعلى الجانب الآخر يبين بيان مجلس الامن هو سعي الاقطاب الرأسمالية العالمية في مجلس الأمن لخلق الاستقرار السياسي والامني في العراق كي يكون مدخلا لاستقرار المنطقة وبالتالي تأمين مستلزمات دوران رأس المال.
تشكيل حكومة الاغلبية وبعيدا عن المحاصصة أكبر كذبة في الموسم الجديد لتدشين المشهد السياسي بعد انتخابات اقل شعبية من انتخابات ٢٠١٨، فالعراق الذي قسم بدعم السياسة الأمريكية الى مناطق نفوذ ميليشياتية لن تتشكل فيه أية حكومة اغلبية برلمانية بالمعنى الديمقراطي. ومقتدى الصدر الذي يتحفنا كل يوم بأنه سيشكل حكومة الاغلبية عبر تشكيل الكتلة الاكبر في البرلمان لن يقوم له قائم بدون القائمة القومية الكردستانية والقائمة (السنية) العروبية، والتي تعني تقسيم المناصب الحكومية حسب المحاصصة بين تلك الكتل، وبخلاف ذلك لن يكن هناك كتلة اكبر.
ومن خلال هذه الزاوية يجب النظر الى مسألتين استحدثت على المشهد السياسي، الاولى هي الصرخات التي تتعالى من تحالف المليشيات بقيادة فتح وعموم ما يسمى البيت الشيعي الذي توحد تحت عنوان الاطار التنسيقي. فكل التصريحات والاحتجاجات وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات والضجيج والفوضى الذي تحدثه في قطع الطرق واقتحام المنطقة الخضراء، مردها، هي المحاولة بالحفاظ او في افضل الاحوال على إنقاذ ما يمكن انقاذه من حصصهم السياسية والمالية والادارية والعسكرية. فهم يدركون أفضل من غيرهم أن نتائج الانتخابات لن تتغير، وهم ادرى بطرق مكة وشعابها أي بدهاليز التزوير ومسالكها، وان حرق صناديق الانتخابات كما فعلوا في انتخابات ٢٠١٨ لن تنفعهم هذه المرة. أما المسألة الثانية هي إذكاء نيران الطائفية في أي بقعة من العراق، وكانت مدينة المقدادية في محافظة ديالى فرصة لافتعال حريق طائفي في المنطقة (مثل حرائق المستشفيات والمزارع) من قبل مليشيات فتح عبر سياسة التهجير ومحاولة لإنتاج التظلم الشيعي للإبقاء على حصصهم في الحكومة الجديدة. فبعد فشل ترويجهم لهوية “المقاومة والممانعة” وعدم إيجاد سوق لها، ذهبت تلك المليشيات التي يقودها هادي العامري في استغلال الجريمة المروعة التي ارتكبتها عصابات داعش في قرية (نهر الامام) لطرح هويتها التالفة القديمة في المشهد السياسي بعد هزيمتها في الانتخابات.
وهذا يقودنا ان الجناح الولائي اي جناح مليشيات الحشد الشعبي تحت مظلة فتح، يبحث عن مصالحه السياسية والاقتصادية بعيدا عن مصالح ايران. ان الصراع على السلطة يحتدم كل يوم في العراق، وليس صحيحا اختزال هذا الجناح وكل ممارساته السياسية والعملية بعمالتهم لإيران. إن هذا الاختزال هو سياسة دعائية للتيار القومي العروبي والوطني المدعوم من أمريكا والسعودية والامارات ومصر والاردن لتقويض مكانة التيار الولائي اجتماعيا لتوجيه ضربات سياسية وامنية له دون ترك اية بصمات او إسقاطه دون احداث اي صوت مدوي له. وهي في نفس الوقت سياسة من شأنها التعمية على ماهية الصراع السياسي بين هذه الاجنحة في صفوف الجماهير وعموم المجتمع، وتحويل الصراع بين العمال والكادحين ومحرومي المجتمع وهذه الطبقة الفاسدة المدعومة سواء كان ايرانيا او امريكيا الى صراع قومي ووطني من أجل ما سمي بسيادة العراق، في الوقت الذي كانوا جميعهم لم يقٌم لهم قائم دون انتهاك سيادة العراق وتحويله الى مرتعا سياحيا لوكالات المخابرات الاقليمية والدولية وفرق الموت وجيوش المنطقة.
ان الصراع على السلطة بين الجناح الإسلامي-المليشياتي المدعوم من إيران وبين الجناح القومي المحلي المدعوم من أمريكا وحلفائها العرب هو صراع على ادارة مصالح رأس المال وتأمين مستلزمات الربح عبر فرض نظام سياسي واجتماعي بمحتوى استبدادي مع الحفاظ على الديمقراطية من الناحية الشكلية. وكلا الجناحين متفقان، بأن الحفاظ على موقعية العراق في صناعة النفط وفي نفس الوقت فتح اسواقه لن يكون الا عبر الورقة البيضاء التي روجت لها حكومة الكاظمي واشتقت منها قانون الموازنة الذي يعني توسيع مساحة الفقر والعوز. اي ما يتم اخفائه في هذا التكالب على السلطة هو الوجه المعادي لهذين الجناحين مع المصالح الاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة والاغلبية المطلقة المحرومة من جماهير العراق. والمضحك في هذا الصراع على السلطة، فكلا الجناحين يحاولان إخفاء ماهيتهما في السلب والنهب عبر الاحتماء: اما بالهوية الطائفية كما في حال جناح الحشد الشعبي-فتح او بالهوية القومية وما يسمونها بالمحيط العربي كما في حال -تيار الكاظمي-الصدر. وإذا كان مشروع الأول هو المقاومة والممانعة وطرد القوات الاجنبية ومواجهة الكيان الصهيوني لإدامة فسادها وظلمها، فان مشروع الثاني هو الاصلاح، والذين يعني تقويض حصة منافسه الأول عبر شعارات شعبوية خالية من اية برامج اقتصادية وسياسية تحقق الحد الادنى من الحرية والمساواة والرفاه.
ان كل اشكال الصراع بين هذه الاجنحة على السلطة ومواقف الاقطاب الرأسمالية العالمية وتغليفه بهويات طائفية وقومية وحقوق الإنسان والديمقراطية، لديها وظيفة واحدة وهي إخفاء ماهية الصراع الطبقي، والحيلولة دون نهوض صف جماهيري يتقدمه العمال براية مستقلة و بهدف تحقيق الحرية والمساواة ضاربا بعرض الحائط كل الترهات القومية والطائفية وبيانات مجلس الأمن وقلق الامين العام للأمم المتحدة على اوضاع العراق.