السعودية وحجة “قرداحي”!
ضجيج وصخب!
غدت الأزمة السعودية-اللبنانية الشغل الشاغل للإعلام العربي والعالمي اجمالاً. أزمة ألقت وتلقي بضلالها على المجتمع اللبناني على وجه الخصوص بصورة واضحة ومؤثرة. اندلعت هذه الازمة بحجة، نعم بحجة، تصريحات الاعلامي الشهير ووزير الاعلام اللبناني الحالي، جورج قرداحي، حول حرب السعودية في اليمن. اذ سحبت دول الخليج سفرائها من لبنان، وطردت السعودية السفير اللبناني، ومنعت الصادرات اللبنانية الى السعودية وقامت الحكومة الكويتية بوضع العراقيل امام حصول اللبنانيين على تأشيرة الدخول (الفيزا)، وبلغ الاحتقان السعودي (الخليجي)-اللبناني اقصى مداه، وذهب نجيب ميقاتي، رئيس الحكومة، متوسلاً لماكرون لإيجاد حل لهذه الازمة.
بثت هذه القضية الارتباك والهلع في الحكومة اللبنانية الحديثة التشكيل مفجرة لصراعات حادة داخل الحكومة والقوى السياسية في لبنان. دخل حزب الله وايران والقوى المؤيدة لهم على الخط ودافعوا عن موقف “قرداحي”، ونبذه الكثيرون وذلك للمشاكل التي سيجلبها للحكومة واللبنانيين.
ورأينا هجوماً اعلامياً شرساً على قرداحي ينضح بالتخلف متهماً اياه بـ”نكران الجميل” وان “خيره من اكتاف السعودية وام بي سي” كما لو ام بي سي كانت تمنحه راتبه ذلك من اجل عيون قرداحي، بيد ان ما ناله هو من جراء عمله وجهده كإعلامي، ولا فضل لأحد عليه في ذلك. ومضى البعض ليكشف ان لدى قرداحي ابنة تعمل لحد الان في ام بي سي مطالباً بطردها!!! دون ان يسأل نفسه ان الفتاة تعمل هناك بجهدها، وما هو ذنبها في كل ما يجري بحيث تدفع ثمن راي والدها؟!
ان مفاد رأي القرداحي هو ببساطة ان هذه الحرب “عبثية”، وبالأخص طالما ان السعودية لم تحقق اهدافها بسبعة اعوام، فان من غير المنطقي ان تتمكن من ذلك بعام او عامين آخريين، وان على السعودية ان توقف عدوانها على الحوثيين.
ببساطة، انها حجة. لان هذا الحديث قد جرى قبل فترة طويلة نوعا ما، ضمن برنامج ترفيهي حين كان القرداحي شخصاً اعلامياً فقط، وقبل ان يكون له أي دور رسمي او حكومي. ولا زالت القصة تتفاعل وتتفاعل. ولكن ما الذي جعل من قضية ليست بقضية اساساً كهذه تأخذ كل هذه الابعاد السياسية الواسعة، وهذا الرد السعودي-الخليجي الشرس؟!
البرجوازية وفن تضليل الحقائق!
ان البرجوازية هي “استاذ” في تضليل الامور، في ابعاد انظار المجتمع عن حقيقة الامور. إذ راينا دورها في ابعاد انظار المجتمع عن “اصل القضايا” في كل ممارستها السياسية. إذ شنت الحرب على العراق كي تطيح بالديكتاتورية وتحقيق الحرية والرفاه، كما شن صدام الحرب على الكويت دفاعاً عن “عرض الماجدات” (الكويتيون الذين تحدثوا بالسوء عن العراقيات، وعلى انهم سيشترون “الماجدة العراقية” بعشر دنانير”! ورأيناهم يدافعوا عن الورقة البيضاء، ورقة افقار الجماهير في العراق، بوصفها خطوة لتطوير الصناعة العراقية وكي تنافس البضاعة المستوردة! و…. ورأينا كيف ان “اعداء الحسين والشيعة” منعوا هادي العامري من بناء العراق والاعمار” و ان قتل الشباب العراقي الجائع والمفقّر في سوريا من اجل الدفاع عن “المقدسات” و”زينب” و… وبوسعك ان ترى هذا في كل خطوة تروج لها الطبقة البرجوازية واحزابها السياسية. واصبحت السياسة والاعلام والافكار، على يد الطبقة الحاكمة، هي اسهل واكثر السبل نجاعة في خداع الجماهير وابعاد الانظار عن الحقيقة.
ما هو اساس القضايا، وما هي الاهداف الواقعية؟!
ليس لهذه الخطوات والموقف السعودي-الخليجي اي ربط او صلة بقرداحي او حتى بلبنان. إذا اردنا ان نعرف اساس الامور، علينا عن ان نبعد انفسنا عن المواقف والتحليلات السائدة والرائجة، ونذهب الى اصل المعضلة التي تمسك بخناق السعودية اليوم. ان القضية تبعد بآلاف الكيلومترات عن لبنان. انها في بغداد. انها مرتبطة بالمفاوضات السعودية-الايرانية التي تشهد، باعتراف مسؤولي طرفيها، فتوراً وعدم تقدم على جميع الاصعدة.
ان السعودية وايران في مفاوضات منذ نيسان هذا العام، وجرت 4 جولات في بغداد لحد الان. يتعقب كل طرف منهم اهدافاً محددة. تتطلع السعودية من ايران مساعدتها على تهدئة الجبهة الجنوبية (الحوثيين) وتهدئة الوضع في اليمن والضغط على الحوثيين للقبول بالتفاوض حول الحرب وانهائها، هذه الحرب المندلعة منذ 2015 دون اي افق يذكر للحل والانتهاء. اما ايران، فتتطلع الى تخفيف الضغوطات الاقتصادية الهائلة التي تمسك بخناقها، هذه الضغوطات التي رمتها بحرب شعواء يشنها كادحو ومحرومو المجتمع يومياُ بحد قد تدفع الى الاطاحة بسلطة نظام الجمهورية الاسلامية.
ولكسر هذا الفتور، يسعى كلا الطرفين الايراني والسعودي لتقوية اوراقهم التفاوضية. اذ يقوم الاول بالتصعيد في دعم الحوثيين وتقدمهم العسكري للسيطرة على اخر قلاع اليمن الشمالية، مدينة مأرب، وبالتالي ميل ميزان القوى التفاوضي لصالح ايران وشروطها. اي انها لا تتعجل وتتمهل بالمفاوضات كسباً للوقت او تأجيل هذا التفاوض لحين تحقيق الهدف العسكري ذاك، وبالتالي، الدخول في المفاوضات من موقع اقوى لتملي اكثر ما يمكن من الشروط على السعودية في صراعهم الاقليمي القديم.
بالمقابل، مضت السعودية الى استلال ورقة هامشية و”قديمة” وحتى عديمة الصلة لتخلق منها قضية. وقصدي هو ما رد عليه قرداحي في برنامج شبابي افتراضي باسم مع الشعب في قناة الجزيرة، حيث يقوم جمع من الشباب، بوصفهم برلمانيين افتراضيين بتوجيه اسئلة الى مسؤول افتراضي (قرداحي) رد فيه على العديد من الاسئلة ومنها سؤال عن السعودية وحرب اليمن. وبالتالي، استغلال هذه الحجة لخلق قضية، وبالتالي لـ”لخبطة” وضع لبنان، والضغط من هناك على ايران.
ان الدعم المالي السعودي- الخليجي يمثل عصب مهم للاقتصاد اللبناني الغارق في الازمات لحد الانهيار اساساً. هذا الدعم الذي تعهدت به السعودية والخليج منذ اتفاق الطائف عام 1990 والذي اوقفت على اساسه الحرب الاهلية في لبنان. إذ سعت، عبر ورقة قرداحي، للضغط على حكومة نجيب ميقاتي المتشكلة حديثاً (ايلول الماضي) والمؤتلفة من حزب الله والتيار المسيحي-الماروني (المردة) بزعامة سليمان فرنجية. وبالتالي، احراج الحكومة واصابتها بالشلل لحد انهيارها وافشال الحكومة ونسفها، ووضع حزب الله ومن خلفه ايران تحت ضغط الازمة الاقتصادية المقبلة وتبعاتها الكارثية على المجتمع اللبناني. وبالتالي، رمي المجتمع في صراعات اجتماعية خانقة تطيح بهذه الحكومة وحزب الله.
ولهذا، عبّر المسؤولون السعوديون، وعلى اعلى المستويات، مراراً، عن ان الموضوع يتعدى كثيراً موضوعة قرداحي. إن أساس “خيبة املـ”هم تكمن في خيبة املهم من السلطة الحاكمة في لبنان وعدم اجراءها لـ”الإجراءات الاصلاحية”. ان الاجراءات الاصلاحية، من منظور السعودية، هي محاصرة حزب الله “المنظمة الارهابية الداعمة للحوثيين تدريباً وسلاحا” الذي يتحكم بالبلد، ولجم حزب الله من ان يكون له اليد الطولى في اوضاع لبنان. لان لا شيء جديد في تصريحات قرداحي، وقالها الكثيرون من قبله.
ورغم قيام قرداحي نفسه بالحديث عن ان كلامه السابق هو قبل ان يكون وزيراً، وهو “يكن حب كبير للسعودية والامارات” ويعتبرهما بلده الثاني، وان رايه الحالي هو راي حكومته التي ترى في ان السعودية تدافع عن مصالحها وامنها من تطاولات الحوثيين وخطر الحوثيين، وانها تقف الى جنب السعودية في حربها ضد الحوثيين “الانقلابيين” (!!). الا ان كل ذلك لم يخفف خواطر السعوديين، لان قضيتهم في مكان اخر. المكان الذي من النادر ان تجده في وسائل اعلام الرسمية والحكومية المتملقة والمرائية والخانعة.