لا اعتقد هناك من يضاهي معاناتنا في العالم في مكان سمي بجغرافية العراق جراء الحصار الاقتصادي وثلاثة حروب طاحنة. وكان كل ذلك من أجل الدفاع عن “البوابة الشرقية” للأمة العربية في الحرب الأولى العراقية -الايرانية لمدة ثمان سنوات، وصونا للأعراض حرائر العراق في غزو الكويت في الحرب الثانية، والدفاع عن السيادة والاستقلال في الثالثة التي توجت بغزو واحتلال العراق. وهي العناوين التي يرفع زيلنسكي قسم منها والذي حول أوكرانيا بدعم الناتو ووحشية روسيا الى خراب ودمار.
أكبر خدعة اخترعتها البرجوازية الحاكمة اليوم في العالم في تاريخ الإنسانية هي السيادة المطعمة بترياق القومية. وبمحض ارادة البرجوازية تكتسب السيادة معنى مطاطيا وحسب ظروف ومقتضيات توازن القوى في المعادلات الجيوسياسية. فمثلا تنازل صدام حسين عن جزء من أراضي “سيادة العراق” الى السعودية اثناء الحرب العراقية-الايرانية في عقد الثمانينات من القرن المنصرم، كما اتفق مع الدولة التركية خلال نفس الفترة بالسماح لاجتياح جيوشها الأراضي العراقية بعمق ٣٠ كلم لملاحقة القوميين الاكراد ومعارضي الدولة التركية، وقبل ذلك تنازل عن غالبية مساحة شط العرب لإيران عام ١٩٧٥ لنظام الشاه. واثناء التوقيع على وثيقة الاستسلام أمام القوات الامريكية في خيمة صفوان عام ١٩٩١ تنازل عن الكثير من الأراضي للكويت بما فيها حقول نفطية. المهم في كل هذه الحروب هي الحفاظ على السيادة الوهمية التي تتقلص وتتمدد في كل مرة.
اصطفاف دول العالم إلى مؤيد ومعارض ومحايد في الحرب الإمبريالية التي تقع أحداثها في أوكرانيا تخفي شيئا واحدا وهي الحقيقة التي تختفي وراء إصرار زيلنسكي على تقديم سكان أوكرانيا على طبق من الذهب لحلف الناتو. فسكان أوكرانيا لم يختاروا الانضمام الى الناتو وليس من مصلحتهم سواء تم امتلاك سلاح نووي أو لا، ولا يغير كل تلك العناوين من معادلة معيشته ورفاهه سواء كان ملحقا بروسيا او بالناتو. بيد أنهم سيقوا الى الحرب عنوة وفي غفلة من الزمن دون أن يكون لهم رأي بالانضمام الى الناتو او البقاء محايدا.
إن وظيفة كلا الاعلامين الغربي والروسي هي إضفاء الحقانية على حربهما وإخفاء الحقيقة التي وراء تلك الحرب. ويلعب زيلنسكي دورا عظيما في إخفاء تلك الحقيقة التي تفصح عن عدم حقانية تقديم كل يوم أرواح المئات من المدنيين قرابين دفاعا عن مصالح الناتو والامبريالية الأمريكية للوقوف بوجه التمدد الامبريالي الروسي. وهذا ليس نابع من تحليلنا او نتجنى على زيلنسكي، بل كشف هو عن سره بشكل فاضح ودون أي خجل وتردد بأنه يدافع عن امن اوروبا ودول الناتو كما فعل نظام صدام حسين بتقديم مليون انسان قرابين في حربه مع ايران دفاعا عن البوابة الشرقية للأمة العربية.
قد نغيض قليلا كارهي الشيوعية، ولكن لا بأس فليتحملونا كما نحن العمال و الأغلبية المسحوقة من جماهير العالم نتحملهم ونتحمل أكاذيبهم وخداعهم ونفاقهم ودجلهم ومعتقلاتهم وتعذيبهم وحروبهم، لنتذكر لينين الذي رفع شعار (ارض -خبز -سلام) إبان فترة الحرب العالمية الأولى، وقال حينها إن الحرب العالمية هي حرب اللصوص الإمبرياليين، ولا مصلحة للعامل الروسي والالماني والفرنسي والبريطاني والتركي فيها. وبدلا من توجيه فوهات بنادقنا الى صدور بعضنا نحن العمال، فيجب توجيهها نحو حكوماتنا التي لها مصلحة في هذه الحرب الامبريالية ودفعوا بنا كوقود الى محرقتها عنوة . ووفى لينين بوعده وقاد حزبه الطبقة العاملة وعموم جماهير وروسيا نحو إسقاط القيصرية ووقع على صلح (بريست ليتوفسك) الشهير الذي تنازل عن قسم كبير من الأراضي الامبراطورية القيصرية الروسية لألمانيا والامبراطورية العثمانية من اجل حقن دماء الشعب الروسي وبقية شعوب أوروبا، ولعب ذلك الصلح عاملا مهما في إخراج روسيا من الحرب العالمية واسدال الستار على آخر فصولها في عام ١٩١٩ عبر اتفاقية فرساي. وادى ذلك الصلح على تغيير الخارطة السياسية العالمية وكشف لينين عن وثائق حصل عليها من خزائن القيصر على اقتسام العالم بين تلك الدول المتحاربة والتي تحولت الى فضيحة كبيرة حينها. وتم اتهام لينين عندما وقع على إيقاف الحرب حتى من قبل صف من اليسار الذي يتخندق اليوم قسم منه مع روسيا والقسم الآخر من الناتو بأنه خائن وباع الوطن والاراضي الروسية إلى ألمانيا. بموجب الاتفاقية المذكورة التي وقعت في ٣ آذار من عام ١٩١٨ تنازل لينين عن دول البلطيق وهي ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، كما تنازل عن أوكرانيا واعترف باستقلالها، وتنازل عن بولندا التي كانت جميعها ملحقة بالإمبراطورية القيصرية الروسية. لم يتحدث لينين كما يتحدث اليوم زيلنسكي عن سيادة روسيا واستقلالها وعن حقوقها القومية، لأنه كان يعرف جيدا ان القومية والسيادة ليس اكثر من ترهات تبيعها البرجوازية على شعوبها لجرها الى حروبها التوسعية. لقد كان الشغل الشاغل للينين هو إيقاف دولاب الدم الذي يطحن العمال والفلاحين ومحرومي روسيا، ويقدم نموذجا بشكل عملي الى جماهير ألمانيا والمجر والنمسا والامبراطورية العثمانية وبريطانيا وفرنسا أن الحرب القائمة هي حرب اللصوص، وان اهم شيء عندما تعد العدة لشن الحروب هو الإعداد بشكل جيد بجر الجماهير وايقاعها في شرك وخداع الانظمة البرجوازية المتحاربة.
وحتى بعد مرور أكثر من قرن من الزمن لم يفلت لينين من النقد والهجوم اللاذع على موقفه من اوكرانيا من قبل اللصوص الروس وعلى رأسهم بوتين الرئيس الروسي في بداية اشعاله الحرب على أوكرانيا.
إن الطرفين المتحاربين اليوم على أرض أوكرانيا يكرهون لينين، ولكنهم يرفعون القبعات لزيلنسكي، لأن الأول هو النموذج الكشف عن ما وراء حروب اللصوص وتفويته الفرصة عليهم باستمرار خداعهم لجماهير روسيا والدولة الامبريالية المتحاربة، بينما الثاني بقدر هو أي زيلنسكي ممثل أحد طرفي اللصوص لتحقيق مصالحهم بنفس القدر بالنسبة للطرف الثاني أي الروسي يستخدم ذريعة لتزييف حقانية الحرب على أوكرانيا. ولا شيء يخسره زيلنسكي غير شعب قدمه مكتوف الايدي الى الماكنة العسكرية الروسية وقربانا لمصالح الناتو، اما هو ووزير خارجيته ودفاعه ونائبه ومستشاره ورئيس أجهزته الاستخباراتية فهم ينعمون بخنادق تحميهم واجهزة اتصالات غربية تقيهم الاغتيالات من قبل القوات الروسية.
ان الانظمة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لن يرف لها جفن في قتل آخر انسان أوكراني، وأن العقيدة التي نشأ عليها النظام الرأسمالي هو القتل والاستحواذ على الأراضي دون أي وجه حق و إلحاقات قسرية، وأنها لمحظوظة بظهور شخص مثل زيلنسكي يدافع عن مصالحها ويحول أراضيها مجانا الى ساحة حرب بالوكالة مع الإمبريالية الروسية . انها بحق بطاقة يانصيب حصل عليها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
ما نريد أن نقوله إن الإنسان هو أغلى رأسمال كما علمنا ماركس وجسده لينين بشكل عملي، في حين أن الإنسان في مفهوم البرجوازية هو اداة للتضحية به قربانا لتحقيق وحماية مصالحها.