لقد أصبحت عمليات القتل الجماعي في الولايات المتحدة واحدة من القضايا الكبيرة والمعقدة الى تواجه هذا المجتمع. تقع كمعدل (1.63) عملية قتل جماعي في أمريكا يوميا وهي في تزايد. ان تأثيراتها على الافراد والمجتمع وعلى نسيجه خيالية وغير قابلة للوصف. هناك عجز شبه تام للتعامل بشكل فعال مع هذه القضية. بل تكشف الطبقة الحاكمة عن عجز في فهم خطورة هذه الظاهرة على المجتمع الأمريكي وكونها علامة من علامات المستقبل المظلم الذي يواجهه بما فيها احتمالات انهيار وتفكك المجتمع وحتى الحرب الاهلية. ولهذا لا نجد في الأفق أي إمكانية لمعالجة القضية والقضاء على أسبابها الأساسية.
يبقى النقاش حول هذه القضية، في أفضل الأحيان في الأمور الثانوية مثل وفرة الأسلحة وسهولة الحصول على الأسلحة، بيع أسلحة هجومية شبه اوتوماتيكية، الامراض العقلية ووصم الصحة العقلية والنظر إليها على أنها نوع من الفشل الأخلاقي، ضعف تربية البيت، العاب الفيديو العنيفة، العنف الذي تمارسه الشرطة وعسكرة المجتمع، اشاعة ثقافة العنف، العنف الذي تمارسه أمريكا في الخارج. ولكن رغم كون هذه العوامل حقيقية، ولكنها هي عوامل ثانوية. ولهذا تبقى الحلول التي تطرح حلول ثانوية مثل اجراء فحوصات امنية للذين يريدون شراء الأسلحة، تمويل الصحة العقلية، تعليم المدرسين للتعرف على علامات الخطورة، تخزين أمن للسلاح الخ. رغم أهمية هذه الخطوات الا انها ليست حلول جوهرية.
لا ينظر اي مجتمع الى إمكانية امتلاك افراد أسلحة نووية او غاز الاعصاب او راجمات صواريخ مثلا بنظرة إيجابية. بنفس المنطق، يجب ان لا ينظر الى وجود بندقية حربية هجومية شبه آليه بإمكانها قتل عشرات الأشخاص في الدقيقة الواحدة في ايدي عامة الناس نظرة ايجابية، فمثل هذا السلاح لا يستخدم للصيد او الرياضة او للدفاع عن النفس ضد لص مثلا.
مع هذا، ان العامل الأساسي والاصلي هو وجود نظام رأسمالي منفلت العقال ومتعفن في امبراطورية في طور الانحدار. مثل هذا النظام لا يجلب سوى العنف، والقمع، والفقر، والتعاسة. يقوم النظام الرأسمالي باستغلال الانسان في أمريكا بشكل وحشي الى حد الانهاك. لا يمكن للعمال تامين المعيشة او تامين الرعاية الصحية رغم العمل في عدة وظائف.
رغم ركض العامل الأمريكي ليلا ونهارا يبقى على مسافة قريبة من الإفلاس، وخسارة بيته، وخسارة صحته الخ. الطبقة العاملة الامريكية والشعب الأمريكي، هم منهكون وغاضبون. ان وجود مجتمع منهك وغاضب مع كمية هائلة من الأسلحة وثقافة تشجع العنف والقتل سوف يؤدي الى النتائج التي نراها الان. ان الحل الجذري لظاهرة القتل الجماعي والعنف المسلح يأتي من خلال معالجة الأسباب الأساسية البنيوية وهو الاستغلال الوحشي للطبقة العاملة وعدم المساواة الهائلة. فهذه المسالة تؤدي الى بروز وتعاظم كل العلل الأخرى في المجتمع التي تؤدي الى ظاهرة القتل الجماعي.
تتمركز ظاهرة العنف المسلح في الاحياء والمدن الفقيرة ويصيب العوائل والافراد المعدمين اكثر من غيرهم. في الكثير من المناطق يلجأ العديد من الرجال الى حمل السلاح والجريمة لعدم وجود فرص أخرى. ان 42% من الأمهات في امريكا بدون ازواج وأحيانا عليهن ان يشتغلن من اجل تأمين المعيشة وهذا يؤدي الى حرمان الأطفال في اهم فترات حياتهم أي بين 0-6 سنوات من الرعاية والعاطفة ويتعرضون الى الإهمال وهذا يؤدي الى تربية طفل غير محصن ومعرض للخطر. ومعظم الآباء والامهات حتى الذين يعيشون كأزواج هم تحت ضغط نفسي هائل وهذا يؤدي الى اهمال الأطفال. وما يزيد المشكلة شيوع ظاهرة التنمر والتمييز في المدارس. والطفل المحروم والذي يتعرض للأذى يكون عرضة لان يؤذي ويتسبب في الحرمان للأخرين، فكل الذين يقومون بعمليات القتل الجماعي هم افراد عانوا من الحرمان والاهمال.
في مجتمع ملئ بالحرمان، تشجع ثقافة العنف والذكورية الفضة. فكل من يرتكبون هذه الجرائم هم من الذكور واغلبهم من الفئة العمرية 16-24 سنة. اذ لا تسمح الثقافة للذكر بالتعبير عن العواطف والضعف او البكاء او التعبير عن الشعور بالحزن او الحاجة الى العاطفة وملامسة واحتضان الاخر خارج العلاقات الجنسية، ولكن نفس الثقافة تسمح للذكر ان يكون عنيفا وغاضب وتعلم استخدام السلاح وحمله.
في وضع يائس مثل هذا وفي وضع حيث فقد الرجل وخاصة الابيض موقعه كرئيس عائلة، له راتب عالي يمكنه على اعالة عائلته والصرف عليها، تأتي البرجوازية وتحول السلاح الى بضاعة. تستخدم اخر فنون وعلوم الدعاية لدفع الناس نحو شراء واستخدام السلاح من خلال استخدام فن خلق ربط بين السلاح واشياء إيجابية وحاجات مرغوبة أخرى مثل الأمان، الرجولة، والشدة واخافة الاخرين، وكسب الاحترام. اخترع السلاح كوسيلة لاسترداد المكانة المفقودة. ففي الوقت الذين يمجدون الرأسمالية لأنها ” تنتج ما ترغبه الناس” لا تعتمد البرجوازية على الرغبات الطبيعية للناس بل تقوم باختلاق الرغبات من خلال الدعاية الاستهلاكية. لا يمكن لقطاع صناعة السلاح الاعتماد على الرغبات الطبيعية مثل استخدام السلاح للصيد كهواية او الرياضة او مصدر للطعام لأنه قطاع محدود. يجب صناعة رغبات جديدة وهذا ما قامت به صناعة السلاح من خلال حلفاء مثل الرابطة الوطنية للأسلحة.
تصرف الجماعات الموالية لصناعة الأسلحة المليارات على التسويق واللوبيات فمثلا تصرف الرابطة الوطنية للأسلحة في أمريكا اكثر من 250 مليون دولار فقط على مجاميع الضغط للتأثير على أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، وتصرف المليارات على الدعاية للسلاح كبضاعة في حين ان استطلاعات الرأي تؤكد بان السكان في أمريكا هم مع ضبط السلاح.
ولا تقوم الشرطة بحماية الناس من الجريمة المسلحة، بل تعمل لحماية اكبر دولة بوليسية في العالم. تركز على توقيف الفقراء واغلبهم من غير البيض على جنح ومخالفات سخيفة وسجنهم بحيث أدى الامر الى زج اكثر من 2.4 مليون شخص في السجن وهو اكبر رقم في العالم.
ويأتي اليمين البرجوازي ليصب الزيت على النار من خلال بث التفرقة والنعرات في المجتمع والوقوف ضد أي محاولة للسيطرة على حيازة السلاح والدعاية الى حلول تزيد من العنف مثل تسليح المدرسين.
وتقف اقسام من اليسار ضد فكرة تقيد حق حيازة السلاح بجة ان هذا يجرد الطبقة العاملة من السلاح لحماية نفسها في أي حرب طبقية وخاصة “ان ماركس تحدث عن ضرورة عدم تجريد الطبقة العاملة من السلاح”. ان هذا الموقف يستند على اقتباس وتحليل ميكانيكي لما قاله ماركس ولموقف الماركسية من مشاكل المجتمع المعاصر، ولا ينظر الى المشكلة التي تواجه المجتمع في سياقها الحقيقي.
باختصار، ان ازمة الرأسمالية وتزايد عدم المساواة تفاقم جميع علل المجتمع وامراضه الاجتماعية وتجعل الفرد أكثر عرضة للوقوع فريسة. ونفس هذه الازمة تدفع الطبقة الحاكمة الى تقوية اليمين المتطرف والى ابراز الانقسامات الطبقية و الدينية والعرقية والاثنية والاجتماعية والمستندة على الجنس والعرق ولون البشرة والى تحويل قطاعات معينة من المجتمع الى كبش الفداء مثل اللاجئين والمهاجرين الذين هم نتاج الحروب التي تفرضها أمريكا على البلدان الفقيرة. وفي هذه الأوضاع تجعل من السلاح بضاعة “تمكّن” الرجل البيض من استرداد المكانة والحقوق التي فقدها. كل هذه الوضعية تؤدي الى بروز الوضع المأساوي الذي إمامنا الذي يجعل من الشعار ” الاشتراكية او البربرية” شيء ملموس ومفهوم. ان الحل هو في تنظيم الطبقة العاملة لقلب هذا الأوضاع وانهاء عمر هذا النظام والازمات التي تواجه البشرية تحت ظله.