الجزء الثاني والأخير
ماذا نعرفه عن واقع السرطان في العراٌق؟
رغم كل الذي قلناه عن غياب المعلومات عن معدلات السرطان في العراق، الا ان هناك ادلة تثبت حقائق معينة مهمة عن واقع العراق. فمثلا أكثر أنواع السرطانات شيوعا عالميا في عام 2020 كانت سرطان الثدي، سرطان الرئة وسرطان القولون والمستقيم وسرطان البروستات وسرطان الجلد (غير الميلانوما) وسرطان المعدة. في حين ان أكثر أنواع السرطان شيوعا في العراق في عام 2018 مثلا كانت الثدي، الرئة، لوكيميا، المثانة، القولون والمستقيم، الجملة العصبية، اللمفوما (الانسجة اللمفية) ويسجل العراق نسب عالية من سرطان الغدة الدرقية.
اذ يأتي العراق في المرتبة الثالثة عالميا فيما يتعلق بسرطان المثانة ويأتي في المرتبة 32 بسرطان الثدي ويحتل العراق المرتبة الثانية عالميا بنسبة الوفيات بسرطان اللوكيميا والمرتبة 11 بنسبة الوفيات بسرطان اللمفوما. علما ان سرطان اللوكيميا واللمفوما وسرطان الجملة العصبية وسرطان المثانة وسرطان الغدة الدرقية بالذات تتأثر بمقدار التلوث الاشعاعي وتلوث الماء والهواء والتربة وبالتالي الغذاء بمواد كيماوية مسرطنة.
من جهة أخرى، حتى حسب الأرقام الموجودة، فان معدل الإصابة بالسرطان منذ 1991 شهد ارتفاعا حادا. فمثلا ارتفع معدل السرطان حسب التقارير المتوفرة من 31 فردا لكل مئة ألف شخص في عام 1991 الى 57 حالة لكل 100 ألف. كما كانت اورام الجهاز العصبي المركزي في المرتبة الثامنة في عام 1998 بينما احتلت المرتبة الرابعة في عام 2004. في حين ان سرطان الدم ارتفع من المرتبة الخامسة في عام 1998 الى المرتبة الثانية في عام 2004. وتسجل اعلى نسبة زيادة خاصة في جنوب العراق في سرطان اللوكيميا واللمفوما.
ان ترتيب اورام الجهاز العصبي المركزي واللوكيميا في العراق في عام 2010 كان اعلى من ترتيبها في الدول المجاورة مثل الاردن وإيران رغم هناك ادلة بان التلوث الحاصل نتيجة لحرب الخليج في 1991 و 2003 يغطي كل منطقة الشرق الأوسط.
كما هناك دلائل تشير الى زيادة معدلات الإصابة بالسرطان بين الاعمار الصغيرة. ويفيد الكثير من الأطباء العراقيين بان الحالات السرطانية الأكثر خبثا في زيادة.
وهناك زيادة في نسبة السرطان في المحافظات التي كانت مسرح العمليات العسكرية او قريبة منها خاصة البصرة، وميسان والناصرية فهناك تقارير تشير الى زيادة في السرطان بمقدار أربعة اضعاف في البصرة وخاصة بين الأطفال منذ عام 1991. وسجلت محافظات الفرات الأوسط: النجف، بابل، الديوانية، المثنى وكربلاء زيادة في نسبة الإصابة بالسرطان بين الأطفال.
يقول البروفسور كريس باسبي المختص في التلوث الاشعاعي بان أمريكا لم تستخدم ما يسمى باليورانيوم المنضّب فقط في اعقاب غزوها للعراق، بل استخدمت يورانيوم واطي التخصيب أيضا.
ويتحدث كريس عن ارقام مرعبة في الفلوجة بالذات، فمثلا ازداد سرطان الأطفال 12 مرة بعد معارك 2004 وهناك في الفلوجة اعلى معدل للضرر الجيني من أي بقعة أخرى في العالم تم دراستها على الاطلاق. وقد أدى الاستخدام المكثف لعتاد اليورانيوم الذي كان اختراق هائل في المجال العسكري الى زيادة هائلة في الولادات المبكرة والعقم والتشوهات الخلقية بحيث تشير تقارير بانها بلغت حوالي 1 من كل ستة اطفال في حين ان التشوهات الخلقية في هيروشيما كان حوالي 2%.
ليس هناك شك بان ملايين الاطنان من كل أنواع المتفجرات مثل القنابل والصواريخ والالغام، والنفايات والمخلفات الكيماوية العسكرية واليورانيوم ” المنضّب” قد جعلت العراق واحدا من أكثر بقع العالم تلوثا حاليا، وهناك مواقع عراقية ملوثة بدرجة تلوث مراكز التجارب النووية مثل كريسمس ايلاند وغيرها والذي سوف يستمر لألاف السنين والتي سيتطلب إزالة اثارها جهود جبارة من قبل سلطات مسؤولة.
تشير إحصاءات دولية عن وجود آلاف المواقع الملوثة بالإشعاع نتيجة استخدام قذائف اليورانيوم. ويعتقد بأن هذا التلوث للهواء وامدادات الغذاء والماء دور في زيادة نسبة السرطان وخاصة أنواع معينية منه وكذلك التشوهات الخلقية.
واكدت العديد من التقارير العالمية بما فيها تقارير منظمة الصحة العالمية ان البيئة في العراق ملوثة بدرجات هائلة والتلوث الاشعاعي بشكل خاص يفوق الحد المسموح به بأرقام خيالية.
في حين رفضت الولايات المتحدة تحمل مسؤوليتها تجاه استخدام أسلحة مثل اليورانيوم خاصة بعد حرب 2003 التي تم الاعتراف حتى من قبل الغرب نفسه بانها كانت حرب غير مبررة. ولم يتم خطوة واحدة نحو تنظيف العراق من مخلفات الحرب.
ومن المعروف بان نسبة السرطان مرتفعة بين الجنود الأمريكيين الذين تعرضوا للمواد المسرطنة عند حرق والتخلص من المخلفات العسكرية داخل العراق وهي قضية كبيرة تواجه الحكومة الامريكية.
كما ان اثار التلوث المرتبطة بصناعة النفط والغاز وخاصة حرق الغاز غير المستخدم وحرق مصافي النفط والانبعاثات من الاستخراج يؤدي الى ثلوث بيئي هائل، وخاصة ان شركات النفط تعمل الى حد كبير دون اي اعتبار للبيئة. ويعتقد بان قسم من الارتفاع في إصابات السرطان في البصرة مثلا هي نتيجة تلوث الهواء والمياه و التربة بسبب صناعة الوقود الاحفوري.
وربما يعتبر التلوث بسبب السيارات ومولدات توليد الكهرباء التي تعمل بالوقود الاحفوري والتي تنصب داخل مناطق السكن اكبر مصدر للتلوث الذي يتسبب في السرطان وامراض الرئة وامراض أخرى.
كما ان تلوث الماء بسبب تصرفات الدول المجاورة مثل تركيا وسوريا وإيران في تلويث الماء والذي يستمر ربما بوتيرة حتى اعلى داخل العراق نفسه من خلال القاء المخلفات السامة والمواد والنفايات الكيمياوية الملوثة في أنظمة المياه وضعف أنظمة الصرف الصحي لابد ان يكون له دور في هذا المجال. ان تلوث أنظمة المياه يبدا من الأنهار الى المياه الجوفية الى شبكات معالجة الماء الى أنظمة التوزيع وخزن المياه في البيوت بما فيه خزانات المياه على الاسطح.
ويتم استخدام أنواع من الاسمدة الكيماوية ومبيد الحشرات والاعشاب التي ثبت كونها مواد مسرطنة ولا يتم التقيد بالاستخدام السليم لهذه المواد بحيث تنتهي في أنظمة الغذاء والمياه.
وهناك فوضى في استيراد الغذاء والمواد الغذائية الفاسدة والمأكولات والمشروبات المعلبة وخاصة من دول ليس فيها ضوابط صحية معتبرة مثل ايران. وهناك فوضى في استيراد مواد مثل المعطرات والمواد التجميلية التي قد تحتوي على مواد مسرطنة مثل المنيوم الكلوريد وغيرها.
وتتفاقم المشكلة مع غياب نظام للتوعية والوقاية على المستوى الفردي وانخفاض الوعي الطبي في المجتمع وأفضل مثال هو النسب العالية جدا من التدخين مثلا، والزيادة في حالات السمنة وقلة الرياضة، واستهلاك كميات كبيرة من الأطعمة المعالجة والمصنعة وقلة تناول الخضروات والفواكه والتأخر في مراجعة الطبيب عند الشعور بأعراض معينة او اكتشاف ورم غير طبيعي في الجسم.
يرافق هذا، غياب نظام فعال للتحري والتشخيص المبكر مثل الفحوصات الدورية للكشف عن سرطان الثدي وعنق الرحم والقولون والمستقيم الخ والتطعيم ضد التهاب الكبد الفيروسي بي وفيروس الورم الحليمي.
وما يزيد الطين بله هو غياب نظام صحي متطور وشامل وضعف القطاع الصحي العام، وعدم وجود نظام يجعل من الطبيب العام او طبيب العائلة نقطة التماس الأساسية مع النظام الصحي، وقلة الكادر المتخصص، وقلة المراكز المتخصصة في علاج السرطان وقلة أجهزة والفحوص التشخيصية المتطورة والحديثة وتدني الخدمات الصحية وقلة الادوية وخاصة الأجيال الجديدة من الادوية الفعالة ضد السرطان، مما يحرم الكثير من المرضى بعد التشخيص من العلاج اللازم والمبكر، إضافة الى ضعف العناية الصحية النفسية والتلطيفية مثل مسكنات الالام القوية.
ان تغير هذا الواقع لن يتم بدون كنس النظام الاقتصادي والسياسي الحالي والاتيان بنظام يضع الانسان وصحته في مقدمة أولوياته.