النزعة الوطنية المشروخة و النزعة المعادية للإسلام السياسي
الجزء الثاني والاخير.
أن جميع أجنحة الإسلام السياسي حاولت بدهاء ملئ الفراغ السياسي الذي تركه التيار القومي والمحلي الوطني، صاحب راية مواجهة “الرأسمال الأجنبي” بغضّ النظر عن مصدره و نفوذه الاقتصادي والسياسي، لترفع شعارات من شأنها أن تكون قادرة على تعبئة المجتمع، فنجد القومية الايرانية المغلفة بالإسلام وحلفاؤها في المنطقة ترفع راية “المقاومة والممانعة” في مواجهة الأقطاب الدولية الغربية والإقليمية المنافسة لها لترسيخ مواطئ أقدامها في العراق، بينما الطرف الآخر الموالي للغرب والمحيط العربي، رفع شعار التخلص من الهيمنة الإيرانية، عبر التغني بالرومانسية الوطنية التي وصلت ذروتها في انتفاضة أكتوبر.
التيار الصدري ولي عنق النزعة الوطنية:
وعلى هذه الارضية استغل التيار الصدري الفراغ الذي تركه التمثيل السياسي للنزعة الوطنية، وحاول ملأه، فمن جهة تملك النزعة الوطنية وتيارها رأسمال اجتماعي كبير، وبالإمكان لي عنقها وركوبها، واستخدامها كسلاح ضد منافسيه على السلطة السياسية، وهم ممثلو المشروع القومي الايراني في العراق، ومن جهة أخرى الحفاظ وإنقاذ الإسلام كأيديولوجية ومنهجية وهوية سياسية من أي نقد ومواجهة اجتماعية في المجتمع، وخاصة احتواء وكسر اعتبار النزعة العظيمة المعادية للإسلام السياسي في المجتمع العراقي.
ومن يتابع المنحى السياسي للتيار الصدري منذ عام ٢٠٠٣ وحتى احتجاجات تموز ٢٠١٥، يرى انه كان جزء من تأسيس المشروع الإسلامي الشيعي في العراق، وقام زعيمه مقتدى الصدر باتخاذ مدينة (قم) مركزاً له لإدارة مشروعه السياسي، وحصل من نظام الملالي كل الدعم العسكري والمالي واللوجستي والاستخباراتي، كما تم الإشراف على تدريب ميليشياته (جيش المهدي)، ومن خلال ذلك الدعم فرض القوانين الإسلامية في مناطق نفوذ جيش المهدي، و فرض الحجاب على النساء ومنع كل أشكال الموسيقى والغناء فيها، وقام بحملة منظمة من الهجمات على مراكز بيع أقراص الاغاني ومحلات بيع المشروبات الكحولية وتم تصفية العشرات من العمال الأبرياء في تلك المحلات عبر عمليات القتل وزرع العبوات الناسفة وتفجيرها، كما تم تنظيم حملة منظمة في تهشيم رؤوس المثليين بالبلوكات الاسمنتية، وصولا الى ما بعد الحملة العسكرية في ربيع ٢٠٠٨، التي سميت (صولة الفرسان) التي قادها المالكي وبدعم كبير من القوات الأمريكية، وتم تصفية عدد ليس قليل من عناصر جيش المهدي اضافة الى اعتقال المئات منهم.
واستمرت عملية محاولة أسلمة المجتمع من قبل التيار الصدري على قدم وساق، ولم تقف ولو لحظة واحدة، وبعد عام ٢٠٠٩ أسس التيار الصدري، مجموعة (المهدويين) والتي أعلنت بأنها ستقوم بدراسة الفقه والفلسفة والتاريخ الإسلامي لمواجهة العلمانية والإلحاد في المجتمع العراقي، كما لعب التيار الصدري دورا كبيرا لإنقاذ السلطة الإسلامية الميليشياتية الطائفية، التي كان يرأسها المالكي من قبضة انتفاضة شباط ٢٠١١، بفعل هبوب نسيم الثورتين المصرية والتونسية على المنطقة.
بهذا المعنى لم يرفع التيار الصدري الراية الوطنية إلا في احتجاجات تموز ٢٠١٥، في رده على الشعارات المناهضة للإسلام السياسي ورموزه، كما أشرنا، حيث دعا الصدر إلى عدم رفع أية أعلام حزبية غير اعلام العراق، كمحاولة يائسة لإنقاذ الإسلام كهوية وايديولوجية ومنهجية سياسية وفكرية واجتماعية، والتصدي لهجمة الجماهير عليها، بعد اقتران الاحزاب الاسلامية بعمليات الفساد والنهب والاغتيالات والتطهير الطائفي.
ولعب تغيير العامل الإقليمي دوراً في اضافة ( النكهة الوطنية) على حساب الهوية الاسلامية، وخاصة بعد سقوط الهويات الطائفية، التي كانت رأس حربة في ذلك الصراع، وتحديداً بعد تحويل رياح الثورتين المصرية والتونسية و تفريغهما من محتواهما، وتوجيه عصفهما نحو صدور الجماهير المنتفضة من أجل الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، ومقايضتهما بالأمن والامان مقابل إدامة سلطة القمع والاستبداد والإفقار.
أي أصبحت الهوية الإسلامية والايديولوجية الاسلامية والمنهجية الإسلامية وكل مشروعها السياسي تحت طائلة السؤال، ليس في العراق وحده فحسب بل في المنطقة والعالم، وكل ما يندى له جبين الانسانية اقترن بـ ممارسات وافعال الأحزاب والقوى الإسلامية وميليشياتها وعصاباتها من قمع الحريات وعمليات الفساد، سواءً بشقه السني في مصر وتونس وتركيا وسورية وليبيا او بشقه الشيعي في ايران العراق ولبنان واليمن، وبات إرهاب هذه الجماعات عبر داعش يضرب عمق عدد من البلدان الأوروبية، التي قدمت الدعم لكل أصناف الإسلام السياسي، السني والشيعي، في إيران وفي أفغانستان وسورية ومصر..الخ منذ أواسط القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
وإذا ما عدنا الى موضوعنا الأصلي وحسب مقتضيات الحاجة السياسية ضمن متطلبات مرحلة سياسية جديدة وخاصة بعد الانتهاء من سيناريو داعش والحاق هزيمة سياسية بالمشروع الاسلامي في المنطقة، خرج الى النور في العراق تحالف التيار الصدري مع الحزب الشيوعي العراقي، و بقدر ما كان الأول بحاجة لمسح آثامه و جرائمه الطائفية والوحشية، وكل تاريخه في فرض مشروعه الإسلامي بالحديد والدم، الذي امتازت به ميليشياته كسائر المليشيات الاسلامية الاخرى، اضافة الى محاولة في تعميق اللون الوطني وإبرازه بدلا من هويته الإسلامية، ويتبنى بالنهاية خطابا شعبيا بامتياز يمزح بين الدين والقومية من أجل طمس هويته الحقيقية وإظهار هوية وطنية جديدة، بنفس القدر كان الحزب الشيوعي بحاجة الى ذلك التحالف للخروج من مأزقه السياسي ومشروعه الوطني الذي تشوه مرة عندما دخل في مجلس الحكم كما ذكرنا، ومرة اخرى فشل، عندما تحالف في انتخابات ٢٠١٠ مع جماعة اياد علاوي القومية الموالية لكل السياسات الامريكية في العراق والمنطقة.
ولم يدخر التيار الصدري جهداً في قيادة النزعة الوطنية، وحاول عبر اللعب على الوتر القومي المحلي، وعلى وتر غضب الجماهير من كل المنظومة السياسية الحاكمة أن يجرها إلى حركته الاخيرة، الا انه مُني بفشل ذريع.
واليوم يحاول الرعاة الخارجيين لمشروع الصدر إعادة ترتيب صفوف التيار الصدري وتقديم أوراق اعتماده من جديد، عبر إظهاره بأنه زعيم التيار الوطني في العراق في مواجهة النفوذ الإيراني، فعلى سبيل المثال عندما تسرّب وكالة مثل (رويترز) صورة لمقتدى الصدر يرتدي كوفية عربية، وهو يستقبل اسماعيل قاآني قائد فيلق القدس، وتنسب له أقوال بأن الصدر خاطب الأخير، ما شأن إيران بالوضع السياسي في العراق، وتضيف (رويترز) بان اللقاء كان متوترا ولم يكن وديا، وتعزف على وتر ذلك الخبر وسائل اعلام اخرى كما في (سكاي نيوز العربية) على سبيل المثال، ليظهر مقتدى الصدر في برنامج (كلام جد مع نديم) بأنه البطل الذي يصارع بضراوة للوقوف ضد النفوذ الإيراني والجماعات الموالية له، تبيين كل هذه المعطيات بشكل لا لبس فيه، أن هذا التيار ترتفع حساسيته الوطنية فقط تجاه ايران، اما الاطراف الفاعلة الإقليمية والدولية الاخرى وخاصة امريكا الذي تقف خلف مشروع الصدر، فلا حساسية منها سوى بالإعلام هنا وهناك، لرفع العتب وذر الرماد في العيون.
وما يبعث على السخرية في هذا المشهد الوطني الدرامي الرومانسي، الذي يشبه المشاهد الدرامية في الافلام الهندية أو المسلسلات التركية، اولئك الذين نصبوا أنفسهم كممثلين لانتفاضة اكتوبر، او التشرينيين كما يحلوا أن يسمون انفسهم، يرددون خلف الصدر (ايران برا برا) وكأن العراق اسير إيران فحسب ، وليس اسير الإسلام السياسي وسلطته الميليشياتية المجرمة، وأن التطهير الديموغرافي في المناطق المصنفة بالسنية ومادة ٤ ارهاب والتغييب في المعتقلات والسجون، الذي حدث ومازال يحدث لم يكن جزء من مخطط مشروع الاسلام السياسي الشيعي في خضم الصراع على السلطة.
وما يحدث اليوم بمناسبة عاشوراء من منافسة بالحضور الميداني والإعلامي بين رموز البيت الشيعي وفي مقدمتهم مقتدى الصدر وعمار الحكيم والعامري..، وما يهدر من أموال في عمليات البذخ والإنفاق المهول على المواكب الحسينية، والتطبيل الدعائي للمناسبة، وتأجيل كل شيء حتى الحديث عن مستقبل ٤٠ مليون إنسان بعد الزيارة الاربعينية، يكشف عن محاولات ادامة فرض مشروع الاسلام السياسي الشيعي الذي لم يهدأ يوما، عبر إبقاء المجتمع العراقي في دائرة مغلقة للإسلام السياسي الشيعي كسياسة جهنمية للحيلولة دون انفلات قبضة السلطة السياسية من يديه.
اليوم يقف التيار الصدري ودعاة أصحاب انتفاضة تشرين في خندق واحد، خندق المعاداة للنفوذ الايراني، فإذا كان الأول يستخدم الثاني كأداة ضغط سياسي من أجل تعويض خسارته ومحاولة لفتح ثغرة في انسداد أفقه السياسي كما بينّا في مناسبات سابقة، فإن الثاني اختار لنفسه موقع المهرج، الذي لن يكن دوره أكثر من إضحاك الجمهور المتفرج والترفيه عنه.
ان النزعة الوطنية والقومية العروبية التي لا تتحرك بوصلة معاداتها سوى باتجاه إيران، وتعتبرها الحلقة المركزية في صراعها على السلطة، اقل ما يمكن أن توصف بأنها نزعة وطنية مشروخة بامتياز، على الأقل من وجهة نظر المنظومة الأخلاقية والسياسية للبرجوازية الوطنية التي أكل عليها الدهر وشرب.
تلك النزعة المشروخة لا ترى القواعد العسكرية التركية في العراق، ولا ترى هيمنة الشركات الغربية مثل شيفرون واكسيون موبايل الامريكية وتوتال الفرنسية ولوك اويل و روز نفت الروسية وشيل الهولندية-البريطانية و بتروجاينا الصينية في الحقول النفطية- وتجني ارباح عظيمة بسبب توفير بيئة مناسبة للاستثمار من خلال فرض شروط عمل قاسية على العاملين في تلك الحقول النفطية، ولا ترى كيف أن حكومة الكاظمي تنفذ البرنامج الاقتصادي للسياسة الليبرالية الجديدة في العراق التي هي واحدة من أهم مشاريع الاحتلال والسياسة الأمريكية.
واخيرا وعلى انغام ايقاع انتفاضة أكتوبر، كانت هناك مساعي حثيثة لطمس الماهية المعادية للإسلام السياسي لحساب التيار الوطني، وحصر كل مآسي جماهير العراق بالنفوذ الإيراني والمليشيات التابعة له، في حين أن أصل القضية، هو ان توغل المشروع الايراني في المنطقة كما هو المشروع التركي مرتبط بالإسلام السياسي، وبدعم الغرب له بأشكال مختلفة وحسب مصالحه في خضم أية تحولات سياسية.
وهذا يقودنا الى نتيجة بأنه دون تصفية الحساب مع الإسلام السياسي، وقطع دابره كسلطة سياسية ومنظومة فكرية سياسية واجتماعية و كمشروع رجعي معادي لكل المعاني الإنسانية بشكل مطلق، يصعب قطع اذيال ايران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية في العراق، ولا يمكن الحديث عن الحد الأدنى لحياة آدمية آمنة في العراق.