إنهم يسرقون حتى الفرح
بطولة كأس خليجي 25 في مدينة البصرة العراقية، التي استحالت خلال أيام الاستعداد ومدة المنافسة بين الفرق، إلى كرنفال شعبي هذه المدينة التي سحرت زوارها من جميع الجنسيات والعراقيين، بسخاء أهلها وحسن الاستقبال، ولاسيما الفرحة العارمة التي اجتاحت المدن بعد فوز المنتخب العراقي بلقب هذه البطولة.
مشاعر الفرح الغامر، ومظاهر الاحتفال التي امتدت ليومين متتالين في المدن وبغداد، ونقلتها وسائل الاعلام المختلفة المحلية والدولية، وفيض من مواقع التواصل الاجتماعي وثّقت كل تفاصيل مدة المنافسة وما بعدها، وردود الافعال الجماهيرية الإيجابية التي جعلت من هذه المناسبة بمثابة عيد كانت الجماهير تتلهف إليه وتنتظره، لتطلق العنان لمشاعر الفرح الجماعي بعد سنين طويلة من المعاناة والنكبات.
قطعت الاحتفالات الجماهيرية هذه فجأة أنباء غير سارة، أصابتهم بالكدر واللامبالاة، وهي دعوة مقتدى الصدر للمنتخب وكادره الإداري والتدريبي ومحافظ البصرة، للحنانة في النجف حيث مستقره وإدارة تياره، لتهنئتهم بالفوز ومنحهم الهدايا. والمعروف عن مقتدى لم يكن يوميا من متابعي كرة القدم أو من مشجعيها، بل يُنسب له تعليق يستخف من هذه اللعبة ويستهين بممارسيها. يظهر من خلال ترحيبه بالفرق الخليجية بداية المناسبة، هو وبعض كبار مسؤولي التيار الصدري، تشديدهم المتواصل على عبارة (الخليج العربي)، نكاية بخصومه الإيرانيين الذين اشتعلوا غضباً من إطلاق هذه التسمية، وحسب زعم الأخيرين إن ” الخليج فارسي وسيبقى فارسي إلى الأبد”. هذا من جهة ومن جهة أخرى استغل الصدر المناسبة كفرصة تعويضية لفقدانه هو وتياره التعاطف الشعبي، ولاسيما بعد انتفاضة تشرين، وللظهور بمظهر المشارك في الأفراح الوطنية والشعبية، ولكن النتيجة جاءت من الجهة المقابلة مخيبة للآمال إلى أقصى حد.
تعكر مزاج الجماهير… ومن الناس من حمّل الفريق وكادره مسؤولية الذهاب إلى مقتدى ” قاتل التشرينيين وحارق ساحاتهم”، ويسأل آخرون لماذا لم يذهب لاعبو المنتخب لتعزية ذوي المشجعين، في حادث الحافلة بين سوق الشيوخ والبصرة الذي اسفر عن وفاة أربع مشجعين وأكثر من عشرين مصاب، ليهرعوا تلبية لدعوة الصدر. في الوقت الذي يرفع مشجعو الكرة صورة كبيرة “لعمر السعدون” واحد من ابرز ضحايا تشرين داخل الملعب ويدعموا مشاعر الجماهير وينظمّوا مع الملايين بمطالبهم كما فعل المنتخب الإيراني خلال كأس العالم في قطر عندما رفض ترديد النشيد الوطني دعماً للتظاهرات ضد النظام الإيراني. ومنهم من منحهم العذر كونهم لا يملكون قدرة لرفض مثل هذه الدعوة أو لكون وعيهم السياسي بسيط، أو لجني الفوائد المالية والهدايا. وكل هذا النقد الموجه لهم واقعي وصحيح، استغلهم السياسيون كساحة لنزاعاتهم السياسية وسرقة ما غمر الآخرين من ابتهاج دون وجه حق.
لم تفتْ الفرصة جماعة الإطاريين كذلك، رهط إيران وغرماء الصدر السياسيين. فقد قاموا أيضا بدعوة المنتخب وإدارته ومحافظ البصرة، للاحتفال بالفوز وتقديم الهدايا إليهم أمام شاشات الفضائيات ورفع صورة أبو مهدي المهندس، الذي سقط صريعا مع قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني قبل عامين بصاروخ أمريكي، أرادوا هم أيضا إرسال رسالة تعبر عن وجهة نظرهم ووجهة نظر إيران بما حصل في خليجي 25، رسالة مفادها هذا هو الفريق الذي فاز ببطولة ما اسميتوه “الخليج العربي” قد حمل صورة أبو مهدي المهندس الذي يُطلق عليه في أحيان كثيرة “رجل إيران في العراق” و صاحب الفضل المثالي لنفوذ إيران في العراق…من جهة واستثمار سياسيا للظهور بمظهر الاهتمام بالشباب من جهة ثانية، وفات جميع هؤلاء (مقتدى والإطاريين)، إن الإنجاز الذي حققه المنتخب الذي يستثمروه لم يكن بفضله فحسب، بل بسبب حماسة الجمهور التي شابهت الطوفان تشجيعا ومؤازرة. والجمهور يدرك بوعي تام، إن هؤلاء السياسيين لم يكونوا يوما ما سبب وحدة وحرص على الشباب والمجتمع، وإنما هم في حقيقتهم لم يكونوا سوى متصارعين على السلطة ونهب المال العام، وكل انقسام بالمجتمع، وهم سبب كل مأساة تعصف بالعراق منذ عقدين خلت، السبب الذي جعل الجماهير تشيح بوجهها عن الفريق وإنجازه، وتلقي عليه اللوم كونه قد كان شريكاً لهؤلاء بسرقة فرحتهم واحتفالهم.
الملامة لا تقع بمجملها على الاعبين وإدارة الفريق، على خطوتهم هذه. إنما السوء وكل السوء يكمن في هؤلاء السياسيين، الذي يسعون إلى تطويع كل شيء لخدمة استثماراتهم ومكاسبهم السياسية، من الدين إلى كرة القدم، والذهاب بهذه الرياضة الجميلة بالضد مما كان يقال بأن الرياضة ” تصلح ما تفسده السياسة”، وأفسدوها وجعل منها صورة شائه كصورهم الوضيعة.
من الحقائق المعروفة، بأن الرياضة وكرة القدم بالذات؛ هي مشروع استثماري في معظم الأماكن حول العالم جعلت منها الرأسمالية مصدر ربح وعقود ضخمة، والدليل ما يحصل حاليا من مزايدات على الاعبين والأندية الكروية، في المنافسات الكبرى الأوروبية وغيرها، بصفقات ضخمة جعلت من الأمر بعيدا عن الرياضة، وممارستها البريئة والممتعة.
إلا إن ما حصل مع حالتنا بعد خليجي 25، لم يكن استثمارا عاديا، إن صح القول، بل اغتصابا سافرا، قامت به جماعات همجية، فما علاقة هادي العامري ومقتدى بكرة القدم ومتعتها، وما علاقة هؤلاء بتطلعات الشباب واهتماماتهم؟؟
إن هذا الحادث جاء كبرهان من جملة براهين لا تُعد، عن غربة هؤلاء عن المجتمع، وتسلطهم وسرقة كل ما له صلة بحياة الجماهير، وكأنهم يعاقبون الناس على افراحهم التي اشمأزت نفوسهم من المواكب واللطم، وإن الفرح والاحتفال ممنوع لطالما يظل موجود في السلطة أمثال هؤلاء.
إن هذا الحادث درس لم تنساه الجماهير وتأسف لضياعه بين براثن الضباع، والحيف ظاهر على هذا النظام حتى داخل مدرجات الملعب، يوم هتف عشرات الآلاف من المشجعين بأعلى صوت ينادون السوداني “نزل الدولار نزله” عند دخوله الملعب. الجماهير تطالب بالخبز والرفاه، وهم يسعون للبقاء بالسلطة والتمتع بمكاسبها، وهذا هو الفرق بين الحرية والعبودية، ونفاذ الصبر والغضب الجماهيري يتبلور يوما بعد يوم وأثر كل حادث، حتى الانفجار القريب، الذي يزيل هؤلاء عن طريق الجماهير نحو تحقيق مطالبها المشروعة بالتمتع بالحياة دون نقصان، ويغدو الفرح حقيقيا، بلا منغصات ولا من يسرق.