إن ما يحدث في السودان له ابعاد سياسية واقتصادية وعسكرية إقليميا وعالميا، ومرتبط بصراعات الأقطاب العالمية من جانب، وكذلك مرتبط بالأوضاع والصراعات الداخلية السودانية من الجانب الاخر. ان الاحتجاجات والتظاهرات والانتفاضات المستمرة لشهور عديدة والتي أطاحت بالحكم الاستبدادي لعمر البشير العسكري في نيسان من عام ٢٠١٩، والذي مسك السلطة لما يقارب من ثلاثة عقود، من قبل الطبقات المحرومة والفقيرة من العمال والكادحين والفلاحين الفقراء. إن التخلص من حكومة البشير وحزب المؤتمر القومي السوداني، ما كانت قد إزاحة الهيئة والمؤسسة العسكرية الحاكمة الفعلية من السلطة كذلك، وهذه المؤسسة العسكرية اختارت الفريق عبدالفتاح البرهان ممثلا لسلطتها، بالتعاون مع قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي وأن تتفاوض مع المتظاهرين، المشكلة من القوى المدنية لتأليف الحكومة. واستمر الصراع من اجل تشكيل الحكومة وتقاسم السلطة بين العسكر والمدنيين تارة، والصراع من اجل إزاحة العسكر من السلطة وتسليم الحكم الى المدنيين تارة أخرى. ان استمرار هذه الصراعات من عام ٢٠١٩ والى الان هو صراع اجتماعي وسياسي داخل المجتمع السوداني، والذي يكون حضور الطبقة العاملة الجزء الرئيسي منها.
بالإضافة الى هذا الصراع الأصلي والاجتماعي في المجتمع السوداني ،هناك صراع إقليمي وعالمي يحيط بالمشكلة السودانية أيضا، ويغذيه ويفضي به، الى الصراع العسكري الحالي بين انصار البرهان وحميدتي.
كون دولة السودان دولة غنية بالموارد الطبيعية، وأهمها الذهب والذي يقدر انتاجه السنوي بما يقارب ٩٠ مليون طن، بقيمة حوالي خمس مليارات دولار. وكذلك يتمتع أيضا بمقومات زراعية هائلة، ومساحة أراض زراعية تُقدر بنحو 216 مليون فدّان، وتتعدد موارده من فضة ونحاس ويورانيوم وثروة حيوانية، كل ذلك بالتوازي مع موقع جيوسياسي يعتبر البوابة للقرن الأفريقي والذي غدا موضع تنافس لكل من روسيا والغرب وامريكا، والبحث عم موطئ قدم لبناء قواعد عسكرية على سواحل البحر الاحمر. ان كل هذه الخصائص تجعل من دولة السودان ان تكون تحت انظار الرأسماليين في الدول الإقليمية والعالمية وان تتصارع فيما بينها لترسيخ وجودها. ان الصراع العسكري الحالي والاقتتال بين قوات الجيش والدعم السريع هو من اجل حل وفصل الصراع السياسي والاقتصادي بين الأقطاب الإقليمية والعالمية.
ان هذا الصراع هو صراع رجعي بين اقطاب السلطة من اجل حسم السلطة، والقتال فيما بينهم جعل من المجتمع السوداني مجتمع غير مستقر وتزداد الضحايا بما يقارب الف شخص من المدنيين والعسكريين ويقترب يوم بعد يوم الى الحرب الاهلية ويفقد يوم بعد يوم سمات المجتمع المدني ويزداد الغلاء، وصعوبات المعيشة مع استمرار الاقتتال وتدمير البنية التحتية الأساسية للمجتمع السوداني. وان كل هذه الصراعات والاقتتال أدى في النهاية الى تعطل الاحتجاجات الجماهيرية من اجل تغير سلطة العسكر وإقامة حكومة مدنية والتقليل من هيمنة المؤسسة العسكرية على كافة الأمور السياسية. ان قمع الاحتجاجات والتظاهرات عن طريق خلق الاقتتال العسكري بين الحكام العسكريين هي مهمة الدولة البرجوازية السودانية وتحاول من خلاله ابعاد الطبقات المحرومة وخاصة الطبقة العاملة والجماهير الكادحة عن الاحتجاجات واخماد هذا المد الثوري، والتي نظمت الجماهير قوتها في المجالس المحلية وفي المعامل والمصانع والهيئات الخدمية الأخرى من اجل تشديد الخناق على الطبقة البرجوازية السودانية. وان من اول الضحايا لهذه الأوضاع هي أوضاع الطبقة العاملة والجماهير الكادحة ونضالاتها من اجل حياة افضل، وكذلك ضحايا المد الثوري والذي ازدادت وتيرته نتيجة تنظيمه الاجتماعي اثناء الاحتجاجات والتظاهرات. ان استمرار الاقتتال له عواقب سياسية مؤلمة ويكون ضربة مفجعة من اجل مشاركة الجماهير في تقرير مصيرها.
ومن جانب اخر فان الصراع الغرب والامريكي مع روسيا والصين يكون له الحضور الواقعي في السودان أيضا. ان حضور وتوسع مصالح روسيا والصين في القارة الافريقية وابعاد كل ما هو غربي في هذه القارة ودفن ماضيه الاستعماري الدموي يتطلب صراعا مريرا من اجل تحقيق هذا الهدف. يتطلب مصالح كل من غرب وروسيا والصين بان تستحوذ على اكثر ما يمكن من الموارد والخيرات في القارة الافريقية، والسودان احدى اهم هذه البلدان. ومن هنا تتصادم المصالح وتؤدي الى زعزعة الأوضاع السياسية في البلدان الافريقية ومنها السودان.
ان إيقاف هذا الحرب هي مهمة القوى الثورية في اللجان المحلية. بإمكان هذه اللجان ومكوناتها ان لا تكون متفرجة وان تنتظر القوة العسكرية ان تحسم السلطة السياسية، وانما بإمكانها المطالبة بتوقف القتال، وفي نفس الوقت تحاول ان تستغل هذا الصراع وان تبني بنيتها وسلطتها وارادتها من الأسفل ومن داخل المجتمع وان تقوم بمقام السلطة الفعلية. ومن هذا المجال ان تبني برنامجها السياسي والاصلاحي لخلق مجتمع جديد بعيد عن عسكرة المجتمع.