الجزء الأول
المقدمة :-
تاريخ النزعة القومية
تعتبر القومية أحدى أهم الايدولوجيات البرجوازية. هذه الايدولوجية هي ايدولوجية حديثة برزت بشكل ملحوظ في نهاية القرن الثامن عشر خاصة في اوروبا. لقد كان أساس الحكم والادارة قبل بروز الدولة القومية هي السلطات الاقطاعية المحلية والسلطات المحلية للقرى والقصبات والمدن غير مستندة على أساس القومية ومن بعدها انظمة ملكية مطلقة مبنية على أساس الهوية الدينية. لقد كان مطلوب من الافراد ابداء الولاء للسلطات الاقطاعية والدينية والاسرة المالكة وليس للوطن والدولة القومية.
لقد ناضلت البرجوازية الصاعدة من اجل توحيد مناطق وجماعات في كيانات أكبر تخدم مصالحها مع نمو التصنيع والحياة الحضرية والإنتاج والحاجة الى قوى عاملة وأسواق أكبر، أي بناء الاقتصاديات الرأسمالية القومية القابلة للاستمرار على حطام النظام القديم. لقد شحنت الدولة المركزية الكبيرة بالنزعة القومية التي بدأت تترسخ كأيدولوجية للحكم مع كل ما وعدت به من “الحرية والمساواة والاخاء” وجعل “الشعب” مصدر للسلطة بدلا من “الله” وحلت سلطة النزعة القومية والدولة القومية بدلا من الملك. لقد انتشرت القومية في القرن التاسع عشر في اوروبا وفي القرن العشرين الى دول افريقيا وآسيا. لقد أدت الحروب العالمية والصرعات الأخرى بشكل خاص الى نمو الحركة القومية واحتلال الاحاسيس والنزعة القومية مكانة مهمة سياسيا. وبعد الحرب العالمية الثانية اصبحت القومية ايدولوجية حركات التحرر في الدول الخاضعة للاستعمار. ان نمو الحركات القومية لا تؤدي الى إعادة انتاج نفسها فحسب بل تؤدي الى ولادة وتقوية وتغذية المزيد من الحركات القومية.
تعتبر الحركات القومية “الهوية القومية” أسمى من كل الهويات الأخرى. كل الحركات القومية تدعي بان لها ارتباط وثيق بماضي سحيق ولها تاريخ يعود الى قرون، رغم ان عمر النزعة القومية لا يتعدى ثلاث عقود. تصرف اجنحة من البرجوازية أي الحركة القومية جهود جبارة في إعادة انتاج نفسها وانتاج النزعة والاحاسيس القومية وتقوم بتسخير التعليم والاعلام ومؤسسات الدولة في هذا الاتجاه. تصرف أموال وجهود هائلة في خلق الخرافات والأفكار التي تقدس القومية، وحقها في إقامة دولتها والولاء “للامة” وحب “الوطن” وتقديم مصالحه على المصالح الفردية والجماعية الاخرى وضرورة التضحية من اجل الدفاع عن مصالح واستقلال ” الوطن” الذي يجب ان يتمتع بالسيادة ويتحرر من التدخلات الخارجية، وعلى تشجيع “الوحدة الوطنية” و تطوير اللغة القومية، وفي خلق ثقافة قومية من شعر وموسيقى ورقص واعياد وطقوس ومراسيم وفي رسم واحيانا إعادة رسم حدود الوطن. لقد أُلفت كتب وسُودت ملايين الصفحات في تحديد ” الاركان القومية” و”الخصائص المشتركة” للأمة من عرق وثقافة والموقع الجغرافي واللغة و الدين والتقاليد والتاريخ المشترك. وصل الامر بان تبدو النزعة القومية كأنها نزعة بيولوجية طبيعية وان تكون قوميا هو شيء بديهي وايجابي.
تدعي الحركة القومية بان القومية هي هوية انسانية اصيلة رغم انها هوية ايدولوجية تفرضها حاجة البرجوازية لهوية من اجل الحكم وتخلق بشكل واعي وأحيانا بشكل مفبرك.
تطالب الحركة القومية بحب الوطن بغض النظر عن درجة العدالة، والمساواة والحرية والرفاه او الفساد، الفقر، التمييز، عمل الأطفال، تجارة الرقيق، العبودية الخ التي تسود فيه.
تقوم الحركة القومية بإضفاء محاسن وايجابيات على القومية تصل الى حد الخرافة، اذ تدعي بان القومية والنزعة القومية والحركات القومية تجمع الناس، وتقوي الأواصر بينهم وتخلق لهم ولاء وتشجعهم على التضحية من اجل الاخرين ومصالحهم. ولكن نظرة سريعة على تاريخ القومية والحركة القومية تجد انها مليئة بالمجازر البشرية والابادة الجماعية، وهي على استعداد لارتكاب اسوأ المجاز على صخرة حقيرة او تلة “وطنية” قاحلة. تقوم الحركة القومية بتفريق الناس أكثر مما تجمعهم، فهي خبيرة في تحديد من ينتمي للقومية و” الامة” و ” الوطن” ومن لا ينتمي لها ومن هو اجنبي ومن هو عدو او ينتمي للقوميات، الاخرى ففي فترات معينة كانت اقسام كبيرة من مجتمعات كثيرة لا تعتبر جزء من “الامة” و القومية و ” الوطن” الذي تمثله بما فيه على أساس الجنس والعرق والديانة.
على مر تاريخ البشرية كان للإنسان إحساس بالارتباط بالناس الذين يعيش بينهم وحتى المكان الذي يعيش عليه والتقاليد التي يمارسها و نمط وروتين الحياة والطبخ و الطقس وحتى السلطات التي تدير حياة البشر. تدعي الحركة القومية بان هذا الإحساس بالارتباط بمكان العيش والاهل والأصدقاء ونمط الحياة والحنين الى الماضي انه بسبب النزعة الوطنية و القومية في حين ان هذه هي ميزات إنسانية.
تدعي القومية انها تقوم بعلمنة الحياة والتعليم. ولكن رغم ان الحركات القومية في أوائل بداياتها عندما برزت بوجه السلطة الملكية والايدولوجية الدينية تبنت العلم والاسس العلمانية وحق المواطنة، الا ان اغلب الحركات القومية المعاصرة تقوم بتقديس الدين وإعادة انتاجه وتقوية نفوذه في المجتمع كأحد الأركان التي تميز ” امة” وقومية معينة.
دور منصور حكمت فيما يتعلق بالقومية والحركة القومية!
لقد كان دور وتدخل منصور حكمت فيما يتعلق بالمسالة القومية مهم جدا، بل انه صرف جزء كبير من حياته من اجل فصل صف الشيوعية العمالية عن التيارات البرجوازية وخاصة التيار القومي.
لقد ناضل منصور حكمت من اجل احلال الهوية الطبقية والإنسانية الشاملة والعالمية للعمال محل الهوية القومية. يرى انه داخل البلدان الرأسمالية التي يقطنها سكان منتمين الى قوميات مختلفة، يجب تغليب هوية المواطنة التي تضمن مواطنين احرار ومتساوي الحقوق ويفضل العيش في اطار بلدان اكبر مما يسهل تنظيم الصفوف العمالية والدفع بالنضال الطبقي.
بعكس النظرة السائدة في المجتمع البرجوازي الى الحركة القومية كحركة معززة وإيجابية، ينظر منصور حكمت اليها كضيق افق وانفصال عن الهوية الإنسانية والكونية. يعتبر منصور حكمت ان المطالب القومية وحتى مقولة القومية نفسها والهوية القومية، هي غير اصيلة في اكثر الامور ومن صنع المحافل السياسية البرجوازية. لقد وقف ضد تقسيم البشر والتميز على الأساس القومي.
اعتبر الحركة القومية حركة رجعية مثلها مثل الحركات الدينية والفاشية. اعتبر النزعة القومية والهوية القومية أفكار وميول رجعية ومتخلفة ومضرة بمصلحة الانسان ومغايرة لأصالة الأنسان وحرية ومساواة البشر. اعتبر الاحساس والتعلق القومي إحساس سلبي. ان الحدود الفاصلة بين الحركة القومية والعنصرية والفاشية هي غامضة. والحركة القومية في العالم المعاصر هي معادية للاشتراكية بشكل خاص.
ان نظرة سريعة لتاريخ القومية في العالم وفي المنطقة بما فيه القومية التركية والعربية والكردية الخ يؤكد صحة نظرته حول عدم اصالة الحركة القومية. لقد تم صنع هذه الهوية من قبل حركات برجوازية بشكل واعي من اجل مصالح اقتصادية وسياسية. فمثلا خلقت القومية العربية كأيدولوجية وهوية بعد انهيار الدولة العثمانية ابان الحرب العالمية الأولى وخلقت القومية الكردية في العراق كهوية وايدولوجية مع ظهور الدولة العراقية المركزية.
يقول منصور حكمت ان الاعلام القومي يبرز السلطة القومية ببساطة وكأنها مساوية لسلطة افراد تلك “الامة” وتحجب الحقيقة القائلة إن نفس سلطة ما تسمى بأمة واحدة، واتخاذ الهوية القومية كأساس حقوقي ومعنوي لوجود دولة ما، يناقض بحد ذاته حق سلطة المواطنين ويحدد حق الجماهير في” تقرير مصيرها” وخاصة في الدول المؤلفة من اعراق مختلفة.
وفي نظر منصور حكمت، لا تستهدف الحركة القومية الى انهاء الظلم القومي، بل أنها فقط تدافع من اجل اعادة تعريف علاقة الأمم المضطهِدة والمضطهَدة. وتتعايش الحركات القومية على تأجيج الاحاسيس القومية وخلق الهوة القومية وتحويل الاختلاف على أساس قومي الى جزء من تركيب وآلية عمل المجتمع وتحويل القضايا القومية الى عقدة في المجتمع، التي تؤدي الى القمع القومي والنعرات القومية وحتى بالتالي استخدام الوسائل العسكرية لإخضاع أجزاء معينة من المجتمع.
والكثير من هذا، رأى منصور حكمت ان الحركة القومية اليوم، ما عدا حالات معدودة، لم تعد حتى ذات صلة بالظلم القومي، ولا تولي اهتمام بمصائب السكان المضطهدين قوميا، بل هي راية البرجوازية المحلية، وهي أداة سياسية للتعبة الجماهيرية من اجل القيام بعمل سياسي في الصراع مع الحركة الاشتراكية و الاجنحة البرجوازية الأخرى المحلية والعالمية، و هي مرتبطة بحصة البرجوازية المحلية من السلطة السياسية وبمصالحها الاقتصادية وحصتها من استغلال الطبقة العاملة في وجه البرجوازيات الأخرى وخاصة للدول الامبريالية ومرتبطة بآفاق التطور الاقتصادي في البلدان التي تحكمها او تدعي تمثيلها.
تطرح البرجوازية نماذجها في الاقتصاد والسياسة والثقافة على المجتمع وبأشكال مختلفة بدءاً من القومية والدين والليبرالية وصولاً إلى الفاشية والعنصرية. والقومية هي أحد نماذج البرجوازية واطار أيديولوجي وهوية من هويات حكم البرجوازية. وتعتبر القوميات عالميا أطراف من اجل تشكل النظام العالمي. في الدول الغربية والدول الأخرى التي تستقبل المهاجرين تستخدم القومية وإشاعة التفرقة والتمييز العنصري كوسيلة لإخضاع المهاجرين وابقائهم كجزء خاضع يمكن استغلاله وتحميله أعباء الازمات.
تسعى الحركات القومية احيانا الى تجزئة الدول الكبيرة الى أجزاء او دول قومية أصغر او تجزئتها تحت مسميات الحكم الذاتي والفيدرالية القومية والاثنية.
عندما تسعى البرجوازية الى خلق تكتلات عالمية أي اقطاب اقتصادية وسياسة جديدة متكونة من ائتلاف مجموعة من البلدان مثل الوحدة الاوربية لا تقوم بأضعاف المشاعر والانتماءات القومية لكل واحد من الشركاء.
اذ يعتقد منصور حكمت بأن ” بالرغم من ان حركة الرأسمال وتحول عملية العمل الى عملية عالمية في مختلف الميادين الإنتاجية يضعفان الحدود بين البلدان من الجانب الاقتصادي، إلا أن التطور غير المتكافئ للرأسمالية في الأماكن المختلفة، ونقص الرأسمال على صعيد عالمي وعدم الاستقرار العام في أوضاع الرأسمالية، هو ما يحافظ على إبقاء النزعة القومية حية على الصعيد السياسي وفي الاستراتيجية الاقتصادية للأقسام المختلفة من البرجوازية. فما يتغير هو الهيكل والتركيبة القومية للعالم الرأسمالي وليس مكانة الميول والنزعات القومية فيه.
يرى ان خلاص الانسان عمليا من النزعة القومية والهوية القومية ستكون وظيفة الأممية والثورة العمالية التي تزيل الحدود التي تفصل الناس وتقسمهم الى بلدان واقوام وملل واديان مختلفة وتضعهم بمواجهة بعضهم البعض وتحرر الانسان من الخرافات بما فيها الخرافات القومية ومن طوق الانتماء القومي.
لقد سخر منصور حكمت من هؤلاء الذين ينعتون الحركة القومية في العالم الثالث والحركة القومية لأقليات، في وقتنا الحاضر بالتقدمية ، فالحركات القومية ” للأقليات القومية” او المضطهدة في الفترة التي اعقبت الحرب الباردة وانهيار القطب الشرقي هي يمينية في اغلب الاحول وتوائم نفسها مع اكثر السياسيات الرجعية للقطب المسيطر. فتاريخ الحركات القومية حتى الاستقلالية في الوقت الحاضر وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، هو تاريخ حافل بالحروب والابادة الجماعية، واغلبها تقف بالضد من ابسط حقوق الطبقة العاملة ومستعدة للتعاون مع اكثر الحركات البرجوازية رجعية. لقد اصطفت اغلب الحركات الاستقلالية بعد انهيار القطب الشرقي مع السياسات الاقتصادية والمواقف السياسية للدول الامبريالية بقيادة أمريكا ولم يكن نصيب الجماهير بعد الاستقلاليات التي حدثت في عالم احادي القطب سوى الفقر والحرمان واحيانا انعدام الامن والحقوق وفي احسن الأحوال انتخابات شكلية محسومة النتائج مسبقا بشكل أو آخر.