الكيمياء الحيوية للإدمان
هناك في الدماغ أنظمة ارسال عصبية تنتج مواد عصبية اندروفينية وهي نواقل عصبية مشابه للهروين والمواد الافيونية الأخرى تعمل من خلال مستقبلات افيونية تساهم في تخفيف الألم الجسدي والتوتر النفسي وتنتج مشاعر الهدوء والمتعة والسعادة.
وفي الدماغ أيضا انظمة ارسال عصبية تنتج الدومبامين، الناقل العصبي المنشط في الدماغ مما نشعر بالرضا، والسعادة والنشاط والحيوية، والدافع والحافز، والانتباه، والتركيز، ويشارك في التعلم واستجابة المكافئة.
كما ينتج الدماغ الكثير من المواد الكيمائية الاخرى مثل السيروتونين الذي يساعد في الشعور بالسعادة والهدوء والتركيز والاوكسيتوسين الذي له علاقة بمشاعر الحب والمودة والعلاقات الحميمية وناقلات عصبية اخرى التي هي اساسية في تنظيم المزاج والسلوك مثل الابينفرين.
حتى اختلالات طفيفة في توافر هذه المواد الكيميائية يتجلى في السلوكيات غير الصحية مدى الحياة مثل الخوف، والقلق وزيادة حساسية الفرد تجاه الضغوطات، فرط النشاط، الكأبة. وبدورها، تزيد هذه السمات المكتسبة خطر الإدمان.
الصدمة في مرحلة الطفولة قد تعترض النمو الصحي لهذه الأنظمة المهمة جدا. فمثلا يكون هناك نقص في دوائر الدوبامين والمواد الأندروفينية، وعدد مستقبلاتها في الدماغ عند الأشخاص الذين يتعرضون الى الصدمة في مرحلة الطفولة. ولكن الصدمة والاجهاد النفسي في مرحلة الطفولة أيضا تؤثر على تطور الدوائر الدماغية و تعيق تطور أجزاء أخرى من الدماغ، اذ نجد أجزاء من الدماغ مثل الدماغ الحوفي او الانفعالي ومناطق التي تتعامل مع التوتر ومناطق التحكم في الانفعالات في القشرة الدماغية وأجزاء اخرى غير متطورة بشكل طبيعي في الأشخاص الذين يتعرضون الى الصدمات في مرحلة الطفولة التي هي مرحلة مهمة من العمر يتم فيها، كل ثانية ، إنشاء عدة ملايين من الوصلات أو المشابك العصبية وهذا يؤدي الى الامراض النفسية ويهيأ الانسان للإدمان. وتنتج الصدمات التنموية المبكرة العديد من الروابط العصبية الحيوية غير الطبيعية بما في ذلك التغيرات في وظيفة الدائرة العصبية التي تتعامل مع التوتر. وتؤكد الادبيات الطبية، أن آلية الاستجابة للتوتر لها دور في الإدمان.
لا تؤدي تجربة الطفولة المبكرة السلبية، الى نقص المواد الكيميائية “الجيدة” المذكورة في الدماغ فحسب؛ بل تؤدي إلى زيادة غير طبيعية في المواد الكيمائية الأخرى ” السيئة” الخاصة بالتوتر مثل هرمون الاجهاد، الكورتيزون وغيره التي تؤثر بشكل سلبي على النمو الطبيعي للدماغ مع تداعيات تستمر مدى العمر حيث يؤدي الى نمو مستقبلات افيونية و دوبامينية اقل و الى ضمور مراكز دماغية هامة مثل الحصين وهو مركز مهم للذاكرة مما يؤثر ليس على المشاعر الإيجابية فقط بل الاستجابة للتوتر أيضا. ويتم انتاج مواد كيميائية للإجهاد أخرى بشكل مفرط في حال التعرض الى الصدمة مثل الادرينالين والفاسوبريسين والتي لها عواقب مثل التسبب في ارتفاع ضغط الدم في المستقبل مثلا. وهذا يعني بان الصدمات في مرحلة الطفولة المبكرة تؤثر في تطور وعمل مناطق مختلفة من الدماغ من خلال تقليل كمية النواقل العصبية التي تثير المشاعر الإيجابية وزيادة النواقل العصبية المتعلقة بالإجهاد والتوتر والتي تؤثر على نمو أجزاء مهمة من الدماغ.
ان نمو الدوائر والنواقل العصبية ومستقبلاتها وأجزاء الدماغ المرتبطة بالعواطف واستجابة التوتر أو عدم نموها مرتبط بنوع التفاعل مع البيئة، كما أسلفنا. الصدمة هي ليست التجارب السلبية او السيئة فقط، بل قد تكون بسبب غياب التجارب الإيجابية أي الأمور الجيدة التي تفترض ان تحدث. فالصدمة والاجهاد النفسي في مرحلة الطفولة قد تكون نتيجة التعرض الى خطر او سوء المعاملة البدنية والجنسية والعاطفية، ولكن قد تكون خفية مثل الإهمال. اهم الأمور الجيدة التي يفترض ان تحدث هي الارتباط العاطفي مع الوالدين وجودة العلاقات بين الوالدين والطفل وخاصة في الطفولة المبكرة. ويبدأ ذلك في الرحم، لذلك عندما تتعرض النساء للتوتر أثناء الحمل، فإن ذلك يعترض نمو هذه الدوائر العصبية ويهيئ أطفالهن للإدمان كبالغين.
ان تفاعل عاطفي سعيد ومتناغم وامن وغير مجهد مع الوالدين يحفز إنتاج وإطلاق المواد الأندروفينية والدومبامين والسيروتونين والاوكسيتوسين والنواقل العصبية الأخرى في دماغ الرضيع. وبالمقابل يعزز اندفاع الإندورفين والدمبامين والنواقل الأخرى في الدماغ هذا الارتباط العاطفي، ويساعد على المزيد من التطور في الدوائر العصبية الأندروفينية والدومبامينية عند الطفل. وعلاقة إيجابية مع الوالدين تقلل من هرمونات التوتر في الدماغ التي تؤثر سلبيا على تطور الدماغ. عندما لا تسمح الظروف للرضع والاطفال لتجربة تفاعل آمن وثابت او الأسوأ من ذلك، التعرض للعديد من التفاعلات المجهدة بدرجة كبيرة غالبا ما يؤدي الى سوء النمو في هذه الانظمة.
يحتاج البشر والحيوانات في المراحل الأولى من الحياة من الناحية البيولوجية إلى رعاية من مقدم الرعاية من أجل البقاء على قيد الحياة. ولكن حاجات الانسان لا تقتصر على الحاجات البدنية مثل الاكل والشرب والملبس، بل الانسان بحاجة الى امتلاك عواطف إيجابية نحو الاخرين واستقبال هكذا عواطف من الاخرين كأن يحس بأهمية، بحب،وقثي باهتمام. من اجل الحصول على الرعاية، الانسان وخاصة الطفل بحاجة الى الارتباط او التعلق العاطفي مع الاخرين، التي هي القرب من انسان اخر عادة شخص بالغ.
كما يقول ماتي وهو خبير في مسالة الادمان، الارتباط العاطفي مع شخص اخر هو دافع غريزي مبرمج في دماغ الإنسان من اجل الحصول على او تقديم العناية، بالنسبة للرضيع تكون من اجل الحصول على عناية، بدونه لا يمكن للرضيع البقاء على قيد الحياة، نتيجة العجز المطلق للاعتماد على النفس والاعتماد الكلي على البالغين -الأمهات والاباء او من يأخذ هذا الدور.على الرغم من ان هذه التبعية تتضاءل مع نضوج الانسان الى ان علاقة التعلق تبقى مهمة طوال العمر. إذا لم يكن لنا الدافع للارتباط بالأخرين او لم يكن للأخرين الدافع للارتباط بنا، لا يمكننا البقاء على قيد الحياة. والارتباط العاطفي مهم جدا للإنسان بشكل خاص من بين كل المخلوقات الأخرى لان رضيع الانسان يكون أكثر اعتمادا على الاخرين للبقاء وهذه الفترة هي طويلة بالمقارنة مع الحيوانات الأخرى، إذ تستمر حتى فترة البلوغ.
يعد وجود اتصال أبوي ( مع الوالدين) ثابت في مرحلة الطفولة أحد العوامل المهمة في التطور الطبيعي لأنظمة النواقل العصبية في الدماغ ؛ والتي نقصها يجعل الاطفال أكثر عرضة” للحاجة ” إلى تعاطي المخدرات في وقت لاحق من الحياة لتكملة ما يفتقر إليه دماغهم. والعامل الرئيسي الآخر هو جودة الاتصال الذي يوفره الوالدين والذي يعتمد بشكل كبير على مزاج الوالدين ومستوى التوتر الذي يعانون منه.
أظهرت الدراسات مرارا وتكرارا أن الأطفال يتأثرون عاطفيا بتوتر الوالدين وبأكثر تعبيرات الضيق دقة لديهم، ولهذا يقال ان ” برمجة دماغ الوالدين تتحكم ببرمجة دماغ الأطفال”.
ان الاتصال مع الام يغير البيولوجيا العصبية للرضيع. الأطفال الذين يعانون من اضطرابات في الارتباط العاطفي مع مقدم الرعاية لن يكون لديهم نفس البيئة الكيميائية الحيوية في ادمغتهم بالمقارنة مع الأطفال الذين يحصلون على رعاية جيدة ولهم ارتباط عاطفي جيد، ويكونوا اقل مرونة وتكيفا ونضجا وهذه يزيد من التأثير المعزز للمزاج الناتج من المخدرات وبالتالي يزيد خطر الإدمان عندهم.
وتشير الأبحاث بان التحفيز الحسي (الحمل، اللمس، المسد) من الأمهات عند الثدييات والامهات والكثير من الإباء بالنسبة للبشر له آثار إيجابية طويلة المدى على كيمياء دماغ ذريتهم. هذا التحفيز الحسي ضروري للنمو البيولوجي الصحي للرضيع البشري ووقايتهم من الامراض النفسية والادمان. فالأطفال الخدج الذين يضطرون للعيش في حاضنات لأسابيع أو شهور لديهم نمو أسرع في الدماغ ويكونوا اقل عرضة للقلق كبالغين، إذا تم تمسيدهم لمدة عشر دقائق فقط في اليوم.
ووجدت الدراسات أن التحفيز الاجتماعي العاطفي ضروري لنمو النهايات العصبية التي تطلق الدوبامين ونمو المستقبلات التي يحتاجها الدوبامين من أجل القيام بعمله. اذ تلاحظ تذبذب مستويات الدوبامين في دماغ الطفل، مع وجود الوالدين (الام خاصة) او غيابهم.
ان احد تأثيرات الحرمان من الوالد (مقدم الرعاية بغض النظر عن الجنس) في وقت مبكر هو انخفاض دائم في إنتاج الأوكسيتوسين ، أحد المواد الكيمياوية التي تضبط عواطفنا الذي له دور في الإدمان. والحرمان من الأمهات في مرحلة الرضاعة والطفولة تؤدي إلى ارتفاع مزمن في مستويات هرمون الإجهاد الكورتيزول والذي كما اشرنا يؤثر بشكل سلبي على نظام الدوبامين في الدماغ المتوسط، و يؤدي الى ضمور مراكز الدماغ الهامة مثل الحصين الذي هو مركز الذاكرة ومعالجة العواطف ويسبب اضطراب في نمو الدماغ الطبيعي بعدة طرق أخرى مع تداعيات مدى الحياة. ان مادة كيميائية للإجهاد اساسية اخرى يتم إنتاجها بشكل مفرط بشكل دائم بعد قلة الاتصال مع الأم في وقت مبكر هو فاسوبريسين ، وهو متورط في ارتفاع ضغط الدم.
من جهة أخرى، يقول ماتي ان خيارات الانسان عندما يواجه تهديد هو القتال، او الهروب او طلب المساعدة. في حال غياب تلك الخيارات، يميل الدماغ الى التأقلم من اجل التعامل مع بيئة مرهقة وهذا التأقلم يكون على شكل قمع العواطف، تجاهل ما حوله، وتشتيت الانتباه من اجل حماية الشخص من الألم النفسي. اذ يعد تجاهل المحيط طريقة للتغلب على التوتر الداخلي الشديد. والطفل وخاصة في الأيام والاشهر والسنوات الأولى من العمر ليس له أي من تلك الخيارات إذا تعرض الى الاعتداء او سوء المعاملة من أي نوع او الإهمال لذا فان الخيار الوحيد هو تجاهل المحيط، قمع العواطف وتشتيت التركيز. هذا السلوك المهدئ للنفس قد يؤدي الى عدة امراض مثل الكأبة واضطراب فرط الحركة وقلة التركيز وغيرها وبالتالي الى الإدمان لاحقا.
اذ يمكن ان تستمر عملية تجاهل المحيط كمشكلة، مما يتسبب في البرود العاطفي وغياب التركيز، حتى عندما لا يكون هناك تهديد خارجي واضح. ويقول ماتي ان امراض مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه وحتى الذهان هي نتاج الصدمة في مرحلة الطفولة تبدأ كنوع من التأقلم وكلها تتسبب في الم نفسي وتزيد خطر الإدمان.
من هنا فان نقص واختلال في المواد الاندروفينية والدومبامينية واختلال في أجزاء من الدماغ والدوائر العصبية التي تشترك في انتاج المشاعر الإيجابية وتنظيم الاستجابة للتوتر والتنظيم الذاتي العاطفي تؤدي الى مشاعر سلبية وتوتر داخلي تنتج ألم نفسي قد يكون غير قابل للتحمل. الإندورفين والدوبامين مهمان في سياق الإدمان لأن المواد الأفيونية مثل الهيروين والمورفين والمنشطات مثل الكريستال ميث والكوكايين والنيكوتين والكافيين تعمل جميعها من خلال دوائر الدوبامين أو دوائر الإندورفين وهي اقوى مسكنات الألم التي لدينا وان كان بشكل موقت.
عندما يستخدم الشخص الذي لا تنمو الأنظمة الاندروفينية في دماغه بسبب الصدمة في مرحلة الطفولة، مواد مثل الهرويين يشعر بالحب والتواصل الإنساني لأول مرة. ونفس الشيء يحدث من الأنظمة الدوبامينية، فعندما يستخدم هؤلاء الاشخاص مادة مثل الميثافيتامين يشعرون بالسعادة، والدافع، والنشاط والتركيز وكلها بالنهاية توفر هروب موقت من ألم داخلي. وهنا يكمن الأساس المادي للإدمان.
فالإدمان كما قلنا، هو محاولة للتخلص الوقتي من الألم والقلق والكأبة والابتعاد عن الواقع. فأيً كانت المادة أو السلوك الادماني يساعد المدمن على تخفيف الألم ، وعلى الشعور بالرضا والحب ، والسعادة والتواصل العاطفي مع الاخرين وهذا ما يدفع المدمن الى هذه المادة والسلوك. ولكن المشكلة، كلما حصل المدمن على المزيد من هذه المواد من خارج الجسم، كلما احتاج اليها أكثر.
من جهة أخرى، يفتقر المدمنون إلى آلية تنظيم التوتر والتحكم في الانفعالات غالبا بسبب عدم تطور الدوائر الدماغية بشكل صحيح في مرحلة الطفولة. لذلك، غالبا ما تودي الأوضاع المجهدة الى القلق والكأبة ويتسبب التوتر في انتكاس المدمنين.