لقد وضعت العملية التي قامت بها حركة حماس الرجعية كل الغرب في
وضع مثير للسخرية. يجد الغرب الذي يملأ الدنيا ضجيجا حول “النظام
العالمي القائم على القواعد”، والقانون، والسلام، والديمقراطية، والحرية
والقيم، وحقوق الانسان ومحاربة الارهاب صعوبة في إخفاء نفاقه. لقد تبين
بأن هذه المفاهيم لها مكان في قاموس الغرب فقط عندما تخدم مصالحه
السياسية. فلم يعد خافيا بان الغرب أقل ثباتا في الالتزام بالقانون الدولي من
انظمة مثل النظام الروسي والصيني، بل حتى أنظمة رجعية يعتبرها مارقة.
كما ان الغرب أكثر استعدادا للجوء الى الإرهاب حتى من حركة حماس
الرجعية. وبدأ الغرب يمارس اشكال من القمع داخليا يذكرنا بأنظمة قمعية
معروفة. ان هذا الوضع هو دليل على انحطاط وضعف مكانة الغرب وتأزم
مجمل النظام الرأسمالي.
تجد البرجوازية في الغرب واعلامها المأجور نفسها بالضد من بقية العالم
وبالضد من المنطق وكل القيم الإنسانية والقوانين الدولية حيال الصراع
الحالي في فلسطين. ففي الوقت الذي باشر الغرب بفرض حصار اقتصادي
على روسيا بعد ساعات من بدء الحرب الأوكرانية، هرع لتقديم المساعدات
لإسرائيل بما فيها العسكرية، والمالية والمعنوية والإعلامية. وتتفق
الحكومات والمعارضة والغالبية المطلقة من وسائل الاعلام الرسمية في
مشهد مريب في تأييدها الاعمى لدولة إسرائيل في هذا الصراع. لا يتوانى
الغرب في الربط بين الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة في حين ان من
“يمثل” روسيا في هذه الحرب هو إسرائيل وليس الفلسطينيين. يقف بقية
العالم مذهولا امام التناقض بين موقف الغرب من الحرب في أوكرانيا
وموقفه من الحرب في فلسطين، ولكن الغرب كالعادة غير مبالي. لقد بدأت
حملة الغرب في اعقاب العملية التي قامت بها حركة حماس الرجعية
بإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب تحت ذريعة حق
إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وشملت الترويج لأكاذيب وتلفيقات نشرتها
المخابرات الإسرائيلية مثل قيام حماس بذبح 40 طفلا، واغتصاب نساء الى
الادعاء بان قصف المستشفى المعمداني في غزة تم من قبل حركة الجهاد،
وهي أكاذيب لم تنطل على من له درجة من المنطق وانفضحت بسرعة.
كان الهدف من هذه الأكاذيب كالعادة نزع الصفة الإنسانية عن الخصم
(الفلسطينيين) واعتبار الانسان الفلسطيني اقل قيمة من الانسان في إسرائيل
والغرب من اجل تبرير جرائم الحرب ضدهم. وقد افرط وزير الدفاع
الإسرائيلي في هذا المسعى عندما شبه الفلسطينيين بالحيوانات البشرية.
وبلغ الامر بان يدعي الرئيس الأمريكي، أي رئيس اقوى دولة في العالم
بانه رأى صور الأطفال الذين ذبحتهم حماس، ليهرع المسؤولون في البيت
الأبيض للتراجع عن هذا الكذب بعد وقت قصير. وقد أسهب في أحاديثه عن
معاناة الإسرائيليين وأهمل معاناة الفلسطينيين وكان شيء لم يحدث لهم. وقد
تفنن بقية الساسة والاعلام في مواصلة هذه الحملة بألف شكل وشكل. فحتى
عندما يقومون بالإشارة الى القتلى والجرحى والى التدمير على الجانب
الفلسطيني لا يتم ذكر من يرتكب هذه الاعمال ضدهم، بل يتم الحديث عنها
وكأنها تحدث من حالها او كظواهر طبيعية.
لا يقول الغرب شيئا عن الممارسات الفاشية لإسرائيل واختراقها للقانون
الدولي وممارستها للإرهاب في كل لحظة عندما القت حوالي 10 الاف
قنبلة على المناطق السكنية في عزة في غضون أسبوعين وهي أكثر
مناطق العالم مكتظة بالسكان، وهي تقصف المستشفيات، والمدارس
والبيوت وتقطع الماء والكهرباء والدواء عن المدنيين كعقاب جماعي بحجة
ان كل الفلسطينيين مسؤولين عما قامت به حماس لانهم صوتوا لها، رغم
ان اغلب سكان حماس ولدوا بعد 2006، وهو تاريخ اخر انتخابات في
فلسطين. ويقوم الغرب بالتنديد بالعنف ضد المستوطنين الذي اغلبهم جُلبوا
من اوروبا في حين لا يندد بالعنف ضد المدنيين في غزة، والأكثر من هذا
يبرر هذه الاعمال بحجة ان حماس تستخدم المدنيين كدروع بشرية، وهي
أكاذيب سخيفة لان ليس في غزة مكان لفصل المدنيين عن الاهداف
العسكرية. ووصل الامر ان صوّت الغرب ضد مشروع قرار يدعو الى
وقف اطلاق نار انساني مؤقت في غزة يسمح بوصول المساعدات الإنسانية
واجلاء المدنيين المحتاجين.
وقد قامت دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا بالتضييق على التضامن مع
الفلسطينيين، فمنعت فرنسا وألمانيا المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في حين
ان رفع العلم الفلسطيني على بيتك في بريطانيا كافيا بان تحظر الشرطة
للتحقيق معك، وحتى توقيفك. وقامت شبكة ام اس ان بي سي الإخبارية
الامريكية بوقف برامج ثلاثة مذيعين وهم مهدي حسن وايمن مهي الدين
وعلي فلشي رغم ان هؤلاء هم أنفسهم ابواق لسياسات الغرب. ويتم التضيق
على النشطاء السياسيين الذي يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي مثل
الفيسبوك واليوتيوب.
ودأبت البرجوازية الغربية في تصوير الصراع في فلسطين بانه بدأ في
السابع من أكتوبر، واهمال السياق التاريخي لهذا الصراع وحق الفلسطينيين
في غزة الذين يعيشون في معسكر اعتقال منذ 2006 في الدفاع عن انفسهم
حتى حسب القانون الدولي البرجوازي. وتهمل حقيقة ان نفس حركة حماس
هي من صنع إسرائيل وهو ما كشفت عنه تسريبات وكيليس في 2007.
وتدأب على الربط بين اليهود والصهاينة وتهمل حقيقة ان إسرائيل هي
مشروع سياسي، وهي حالة مثالية للتطهير العرقي من خلال نقل اليهود من
أوروبا وتوطينيهم في الأراضي التي يتم مصادرتها من الفلسطينيين،
وحقيقة ان عدد الصهاينة من أصول غير يهودية يفوق عدد الصهاينة من
أصول يهودية بأضعاف. وتصور أي نقد للصهيونية كمعاداة للسامية.
سوف يكون لهذه الحرب مثلها مثل حرب اوكرانيا عواقب تمتد لعقود
وخاصة بالنسبة للغرب وإسرائيل. لقد كشفت هذه الحرب نفاق الغرب بشكل
صارخ وخواء ادعاءاته وقيمه ومبادئه، اذ لم يعد من السهل في هذا العصر
من إخفاء جرائم بحجم جرائم إسرائيل مهما بلغت قوة الماكنة الدعائية
الغربية. سوف تعجل هذه الحرب في افول الغرب وحتى تشرذمه. لقد تمكن
الغرب من توحيد كل اعدائه. لقد أوصل الأمور الى ان قادة أنظمة تعتبر
عميلة وخاضعة للغرب مثل الأردن ترفض لقاء الرئيس الأمريكي. إسرائيل
في مازق وقد عمقت هذه الحرب هذا المأزق. وبغض النظر عما ستقوم به
إسرائيل، لقد تلقت آلتها الحربية والاستخباراتية ضربة موجعة لن تتمكن من
استرداد “هيبتها” بسهولة. لم تنجح حملات قصف المدنيين يوما من الأيام
في تحقيق أهدافها او اخضاع الخصم وفي التاريخ امثلة مثل فيتنام وكوريا
وغيرها. هذه الاعمال سوف تزيد من إصرار الفلسطينيين وحافزهم
للمقاومة. اذ ان القاء السلاح والاستسلام او المفاوضات هي ليست خيارات
لهم. لقد وجدنا كيف اذلت إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية التي
انخرطت في المفاوضات. لن تعيش إسرائيل في سلام طالما لم يعش
الفلسطينيين في سلام.
رغم ان إسرائيل ومن خلفها الغرب يصورون هذا الصراع بانه صراع بين
الخير والشر وبانه صارع ديني بين اليهودية والإسلام او صراع بين
الإرهاب والديمقراطية او بانه من اجل الدفاع عن “الديمقراطية الوحيدة”
في الشرق الأوسط وغيرها من هذه الترهات، الا ان الواقع هو ان دفاع
الغرب عن إسرائيل هو دفاع عن المصالح السياسية لكل القطب الغربي
وخاصة في مواجهة الأقطاب العالمية الاخرى. الغرب بحاجة الى قوى مثل
إسرائيل وتايوان وأستراليا في كل منطقة وكل قارة تعمل كقواعد عسكرية
او حاملات عسكرية لا يمكن خرقها من اجل اخضاع هذه المناطق لنفوذ
ومصالح الغرب.
ولكن هذا الصراع أيضا وضح كيف ان البرجوازية مستعدة على الدفع
بالفاشية الى الواجهة انى اقتضت الضرورة. ان مسالة مصادرة حق
التظاهر وكم افواه النشطاء السياسيين الذي يستخدمون وسائل التواصل
الاجتماعي في الغرب هي ظاهرة خطيرة يجب اخذها بجدية ومواجهتها. ان
ازمة كل النظام الرأسمالي تتعمق. البشرية مقبلة على ازمة اقتصادية
واشتداد الازمة المناخية وتصاعد خطر حروب مدمرة. في مثل هذه
الأوضاع صعود الفاشية من جديد هو امر وارد جدا. على البشرية التصدي
لهذا الاحتمال. يجب الوقوف في وجه حملة إسرائيل على غزة وفضح تاييد
الغرب الاعمى لارهابها ومحاولات الغرب خلق نقاط توتر واشعال
الحروب. على البشرية المتمدنة ان تتخطى الهويات التي تفرضها
البرجوازية على البشرية للوقوف ضد هذا الخطر.
يقف في مقدمة النضال ضد همجية إسرائيل على غزة وكل القمع
الإسرائيلي على امتداد عقود فعالين من أصول يهودية مثل ماكس بليمنثول،
كاتي هيلبر، لي كامب ونورمان فلينكشتاين، وارون ماتي وكثيرين غيرهم.
يجب توحيد الصفوف معهم وكل التقدميين من اجل الوقوف ضد بربرية
إسرائيل ومواجهة المخاطر التي تواجه البشرية.