أعلنت أمريكا أخيرا عن نوياها وأهدافها بصراحة في حرب غزة بعد استخدام حق الفيتو ضد مشروع قرار في مجلس الامن التابع للأمم المتحدة لوقف القتال في غزة، والذي تقدمت به الامارات العربية المتحدة.
صوتت 13 دولة من أصل ١٥ لصالح القرار وامتنعت بريطانيا، ووقفت بالضد من القرار فقط أمريكا.
لقد كانت واضحة منذ البداية خطط أمريكا، بما فيها ارسالها البوارج وحاملات الطائرات الحربية الى إسرائيل وإعلان الدفاع غير المشروط عن اسرائيل فيما عُرف بالدفاع عن النفس، وقامت بحملة دعائية واسعة وانخرطت جميع الدول الغربية في البداية الى جانبها. ولكن بعد أكثر من الشهرين من الجرائم ضد 2.2 مليون انسان فلسطيني من الدمار الشامل وقتل وجرح عشرات الالاف وتهجير مئات الاف الى جنوب قطاع غزة بالقرب من الحدود المصرية، وبث الصور المرعبة لحياة المدنيين وقتل الأطفال وانتشال الجثث من تحت الأنقاض ودفن الاف غيرهم تحت الحطام دون ان يتمكن احد من انتشالهم لعدم وجود المساعدات و…الخ من قبل إسرائيل وبأسلحة أمريكية، أدى الى تغير بعض مواقف الدول الغربية. لقد تغيرت مواقف بعض هذه الدول خاصة بعدما اندلعت الاحتجاجات والتظاهرات المليونية في عواصم الدول الغربية وحتى الامريكية ضد بشاعة السياسات الإسرائيلية والأمريكية في الحصار الكامل الذي شمل منع المواد الغذائية والأدوية وتجويع وقتل الالاف وقصف المستشفيات والمدارس وجميع الأمكنة التي التجأ اليها الناس خوفا على حياتهم وحياة عوائلهم واطفالهم … والان اصبحت أمريكا الطرف الأكثر دفاعاً عن إسرائيل في قتل الفلسطينيين. ماهي الأهداف الامريكية الحقيقية جراء استمرار القتل والدمار؟
ان العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كان بمثابة علامة او جرس، يعلن اقتراب أمريكا من مرحلة خطرة في عمرها السياسي والاقتصادي، بعد ان برز الى الوجود امامها اقتصاد عملاق آخذ في تطور سريع ومذهل وهي الصين الشعبية، التي توسع نفوذها الاقتصادي في العالم بشكل سريع، وامتد من اسيا الى أفريقيا ومن أوروبا الى الامريكيتين وقاربت عوائدها الاقتصادية مجموع عوائد الدول الغربية، ويتوقع الخبراء الاقتصاديون ان يتجاوز الاقتصاد الصيني في نهاية هذا العقد الاقتصاد الأمريكي وان يكون الاقتصاد الأول في العالم! وان هذا بدوره يؤدي إلى نشوء قطبا عملاقا، حاسما في الصراعات العالمية في المستقبل القريب.
حاول الجمهوريون في أمريكا وخاصة برئاسة ترامب الوقوف بوجه النمو السريع للاقتصاد الصيني عن طريق الحرب التجارية وزيادة التعريفات الجمركية على البضائع الصينية الواردة الى أمريكا، التي ليس باستطاعة الصناعات الامريكية منافستها من حيث الجودة والاسعار ومن حيث تقنيتها التكنولوجية الذكية وسرعة الوصول إلى المستهلك الأمريكي والأوروبي. وعلى الرغم من كل محاولات الجمهوريين الوقوف امام تطور الاقتصاد الصيني، بائت كل هذه المحاولات بالفشل ولم تستطع إيقاف صعود الصين الاقتصادي. اما الديمقراطيون بعد مجيء جوزيف بايدن الى السلطة سلكوا طريق اخر للمواجهة وهي إنشاء جبهة عالمية بالضد من تطور الاقتصاد الصيني الصاعد شملت استفزاز الصين في البحر الصين الجنوبي ومساعدة الدول التي لها نزاعات مع الصين في حدودها البحرية مثل الفلبين وفيتنام وتايوان، وكذلك وقوف امريكا بوجه الخطة الاقتصادية العملاقة للصين، طريق الحرير او ما يسمى “بمبادرة الحزام والطريق” الصينية. ان الوقوف بوجه هذه الخطة الاقتصادية العملاقة الصينية، يستدعي وجود وانشاء مشروع اقتصادي عملاق بديل والذي اعلن عنه جوزيف بايدن مؤخرا في الهند المتمثل بما يسمى بطريق : الهند – السعودية – إسرائيل الى أوروبا وهو مشروع عملاق ولكن يحتاج الى حل الكثير من العواقب والمشاكل امامه. وان احدى اهم المشاكل هي العلاقة بين السعودية وإسرائيل وكذلك قضية فلسطين وخاصة قطاع غزة، الذي يمر جزء كبير من هذا المشروع عبره. ان تطبيع العلاقة بين إسرائيل والسعودية كان على وشك الانجاز، حسب تصريح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ولكن هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر أدى الى إعادة النظر من جديد بالخطة الامريكية المذكورة.
ان هدف هجوم حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، كان من الأساس خطوة بالضد من هذه الخطة الامريكية وعرقلتها والدفع بالقضية الفلسطينية مرة أخرى الى الواجهة السياسية العالمية. ان وقوف أمريكا والغرب من اليوم الأول بجانب إسرائيل كان يهدف الى إفشال خطة حماس، وتدميرها والدفع بالخطة الامريكية الاقتصادية من خلال إرسال البوارج الحربية لمساعدة إسرائيل وكذلك لتخويف دول الجوار مثل ايران، ومصر والأردن والعراق وكذلك الحركات الاسلامية مثل حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية في العراق، والدخول في الصراع من اجل الحاق الهزيمة بخطة حركة حماس الإسلامية. وفي المقابل رأينا كيف وقفت روسيا بجانب حماس من الناحية السياسية بالضد من إسرائيل وامريكا وكذلك تحرك الصين بحذر لاحتواء قضية فلسطين وافشال خطة أمريكا بالطرق الدبلوماسية اللينة… ان الصراع الدائر الى هنا لا يتوقف على المشكلة التاريخية غير المحلولة لقضية فلسطين وانما مرتبط بالخطط والمشاريع الاقتصادية لأقطاب الصراعات العالمية من اجل ترسيم العالم من جديد في المستقبل بعد تجاوز المرحلة الحالية من الازمة الاقتصادية للرأسمالية العالمية. وجدت أمريكا نفسها في النهاية وحيدة وحتى حلفائها في الغرب لم يشاطروها حماستها التي تتفرد بها.
ان الطبقة البرجوازية العالمية في صراع لرسم ملامح مرحلة جديدة في عملية نمو الرأسمال وتقسيم العالم فيما بينها لنهب ثروات الأمم واستغلال الطبقة العاملة العالمية وقوة عملها… هذه هي احدى جوانب المسألة، بينما يمثل نضال الطبقة العاملة العالمية في الدفاع عن مصالحها وعن مصالح الإنسانية الجانب الاخر وهو الذي يقوم بحسم التوازن الطبقي او افشال الخطط الاقتصادية والسياسية للطبقة البرجوازية مهما يكن شكلها ومضمونها. رأينا في هذه المرحلة كيف خرج ملايين العمال والكادحين والتحرريين في انحاء العالم احتجاجا ضد البربرية الإسرائيلية والأمريكية في غزة وفي الضفة الغربية. رأينا نهوض الضمير الإنساني على مستوى العالم، بوجه البربرية الإسرائيلية والأمريكية وهذا هو الطريق والنضال القادر على انهاء مأساة أهالي غزة.
ان المرحلة الحالية هي مرحلة افول شمس إمبراطورية أمريكا الاقتصادية والسياسية والتي كانت تهيمن على العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا. وان ما تقوم به أمريكا من وحشية وبربرية بمساعدة إسرائيل هي محاولة يائسة لوقف انحدار مؤشراتها السياسية والاقتصادية ومكانتها العالمية وغرورها الليبرالي. ان محاولة أمريكا في الدفاع عن مكانتها ومصالحها وموقعها السياسي والاقتصادي يتطلب الخشونة والدمار والبربرية والوحشية لا من اجل تطورها وانما من اجل عدم هبوطها الى الهاوية والتنازل عن مكانتها امام القوة الصاعدة الجديدة.
ولكن يمكن ان يكون للبشرية مستقبل اخر غير هذه الصراعات، مستقبل يرسمه النضال الطبقي. ان النهوض وتطور نضال الطبقة العاملة
والمواجهة الطبقية اليوم مرهون بإيجاد أفق واضح للثورة الاجتماعية.