عادل احمد
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة بفلكه، بما يسمى بالكتلة الاشتراكية، اعلن الغرب بانتصار الديمقراطية الغربية والاقتصاد السوق على بقية النماذج الاقتصادية الأخرى. صاحبت هذه الانتصارات والتي لا تعني سوى نموذج السوق الحر كانت أكثر ملاءمة مع تطور التكنولوجيا الصناعية وان الاقتصاد المخطط او رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفيتي وكتلتها وصلت الى طريق مسدود وتوقف تطورها مع سياساتها السابقة. علما بان الاقتصاد المخطط ورأسمالية الدولة في مرحلة ما أي في أوج الأزمة الرأسمالية العالمية في ثلاثينات القرن الماضي، كانت النموذج الأنجح والمناسب لتطور القوة المنتجة وتراكم الرأسمال وكانت بمثابة نقطة الانعطاف لتدخل الدولة في الاقتصاد على مستوى العالمي، وان هذا النموذج الذي غيّر الاتحاد السوفيتي من دولة متأخرة إلى دولة متطورة اقتصاديا وشهدت تطور الصناعة بشكل مذهل …ان فترة التسعينات في القرن الماضي كانت الساعة التي دقت الطبول فيها معلنة انتصار الديمقراطية وكيل المديح للأنظمة “الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات” بشكل لا يصدق وكأن الدول الديمقراطية هي جنة على الأرض وهي تعبير عن أحلام مليارات من البشر …( وفي هذه المرحلة كتب منصور حكمت بحثه الرائع : الديمقراطية بيّن الادعاءات والوقائع! ) والذي كشف جوهر وماهية الديمقراطية البرجوازية وزيف ادعاءاتها. وان القسم الأكبر من اليسار العالمي وخاصة في الدول المتأخرة اقتصاديا، هرع مسرعا مع قطار الديمقراطية لكي لا يتخلف، واصبح الناطق باسم الديمقراطية في جميع المجالات وانتقد أفكاره السابقة بالاشتراكية والماركسية بشكل مذهل، وتجاوز في بعض الأحيان حدود نقد البرجوازية الديمقراطية للماركسية، إلى حدود لم تجرؤ البرجوازية يوماً ما ان تنتقد بهذه الطريقة.
لم تمر فترة طويلة حتى راينا بان النموذج الديمقراطي والليبرالي في ظل التغيرات العالمية اصبح النموذج غير الملائم للإجابة، وخروج الرأسمالية من أزمتها الاقتصادية والتي ظهرت بوادرها في بداية الألفية الحالية ولا زالت مستمرة إلى يومنا هذا وتظهر كل مرة بشكل ما، وتدفع ثمنها الجماهير من الطبقة العاملة والكادحة والمحرومة في المجتمع. ان الحروب وإسقاط الحكومات والصراعات العسكرية والسياسية بين الدول من أجل الاستحواذ على مصادر المواد الأولية والأسواق الجديدة ومصادر الطاقة والحرب الأوكرانية في أوروبا وإبراز الصراعات في الشرق الأوسط وخاصة في فلسطين والسودان، ومحاولة تغذية الصراعات في الشرق اسيا في بحر الصين الجنوبي ووسطها في جنوب قوقاز و… واليوم نرى بان الدول الديمقراطية والليبرالية اكثر شراسة وأكثر همجية عندما تتعلق الأمور بفقدان مكانتها وأسواقها ونفوذها السياسي والاقتصادي في العالم ولا يرف لها طرف، عند قتل عشرات الالاف من الأبرياء أينما تطلبت مصالحها.
ان نموذج الحرب في أوكرانيا والتي ضخت بمئات المليارات من الدولارات وكذلك بقتل مئات آلاف من الجنود بين الطرفين وخلق جحيم للجماهير في هذا البلد فقط من اجل السيطرة والنفوذ وتقسيم العالم بشكل يناسب قوتهم الاقتصادية والعسكرية. ان الغرب الديمقراطي بقيادة أمريكا وروسيا مستعدة ان تمحي أوكرانيا من الوجود وان تقتل جميع سكانها، فقط من اجل انتصار احد الطرفين والتي لا تقل رجعية احدهم عن الاخر وتدفع ثمن هذه الصراعات الجماهير في أوروبا وروسيا، في الغلاء الفاحش والبطالة والتضخم العالي وانعدام افاق خروج الجماهير من هذه المحنة. ان الديمقراطية هنا في الغرب لم تكن جنة مثلما دعوا اليها السياسيين الليبراليين للطبقة البرجوازية ،بل اصبحت جحيما ومصدر قلق لملايين البشر الساعية لتأمين لقمة العيش. لا تنظروا الى العالم من زاوية ناطحات السحاب والقصور الفارهة لقلة من المجتمع وانما انظروا اليها من زاوية الناس الموجودين في البيوت والشقق والتي ليس لهم وقت ان تنعم بمتع الحياة، وتكد ليلا ونهارا ولا تستطيع التوفير لسداد قوائم ديونها…
وان الحرب في غزة او الأصح تدمير وقتل أهالي غزة بأبشع صور الإجرام، والتي راح ضحيتها حتى هذه اللحظة اكثر من ثلاثين ألف قتيل من الأطفال والنساء العزل واكثر من عشرين الفاً لا يزالون تحت الأنقاض وما يقارب الثمانين ألف مصاب، لم تندد أي دولة ديمقراطية بهمجية إسرائيل وقتل المدنيين وتدمير القطاع بأكمله، سوى التصريحات التي لا تؤدي إلى أي نتيجة، ولا تهتم بمصير ملايين البشر الساكنين في هذه المنطقة التي تقاسي الجوع القاتل، والقصف اليومي وتدمير المستشفيات والمراكز الصحية وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية من الأغذية والأدوية… على الرغم من كل هذا التدمير والقتل، نجد إن الدول الديمقراطية الأوروبية وأمريكا تساعد إسرائيل بكل الإمكانيات من الأسلحة والذخيرة او من الناحية السياسية والدبلوماسية في مجلس ألأمن لكي تستمر في وحشيتها…
لنقارن اليوم بالأمس! قالوا أن الديمقراطية هي النموذج الأنجح والأنسب للبشرية وأكثر حرية وأكثر إنسانية حتى الان مقارنة بالأنظمة الأخرى!! وصدقت الناس في البداية، نتيجة الحملة الإعلامية الضخمة وتوفير إمكانيات هائلة لإعطاء الصورة الجميلة للديمقراطية! وهرع يسار الطبقات غير العمالية نحو الديمقراطية بحماسة وراحوا يمتدحونها بأجمل التوصيفات، واليوم لم تبقَ هذه الصورة كما رسمها أصحابها نتيجة سير خطواتها الحقيقية والعملية لإدارة المجتمع وبينت جوهر مناهضة الديمقراطية مع الإنسانية وتناقض مصالح الديمقراطية مع مصالح عموم جماهير الشعب اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا …
ان النموذج الاقتصاد الرأسمالي اي كان اشكاله ومظاهره، الاقتصاد المخطط، رأسمالية الدولة او الليبرالية في الاقتصاد الحر، لا تختلف عن بعضها البعض والتي هي قائمة بصيغة مشتركة على أساس العمل المأجور والرأسمال، ولا تنتج غير الأرباح لأصحابها الرأسماليين، والفقر لجميع أبناء المجتمع. وان النظام السياسي أياً كان ان يكون ديمقراطي او ديكتاتوري او العسكري، لم يكن شيئا سوى أداة لسيطرة الطبقية للبرجوازية على المجتمع من اجل إدامة النظام الرأسمالي وإبقاء أساس المأساة والويلات وهو العمل المأجور.
برهن التاريخ وان كانت بشكل مؤقت، إن تجربة كمونة باريس وثورة أكتوبر في روسيا، إن هذا الشكل من النظام اكثر حرية وأكثر إنسانية ويسمح لتدخل الجماهير في شؤنها هو نظام المجالس العمالية. وليس للاشتراكية إلا نقيض واحد لا غير هو الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي مبني على عدم استغلال الإنسان للإنسان وإلغاء العمل المأجور والرأسمال، عن طريق اشركة وسائل الإنتاج بصورة الاجتماعية. قالو بالأمس ان هذا حلم لا يتحقق واليوم نحن نقول، هو هذا الواقع وهذا هو حلم ملايين البشر، منذ فجر التاريخ البشري، حتى يومنا هذا، وعلينا أن نملك إرادة واعية للسير في هذا الطريق حتى النهاية.