بمناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لتأسيس الحزب
سمير عادل
نستغل مناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لتأسيس الحزب الشيوعي العمالي العراقي، كي نسلط الضوء على أهم القضايا في المجتمع العراقي، إذ دمَّر فيه الاحتلال والغزو الأمريكي كل معالم المدنية والحضارة وفسح المجال لكل القوى والتيارات الرجعية والمتعفنة بجميع مشاربها ومراجعها أن تطل برؤوسها، وتعيد العراق القهقري، عقوداً وعقوداً الى الوراء، وفي خضم كل تلك الأحداث كان للحزب الشيوعي العمالي العراقي دورا في جميع المنعطفات السياسية، علينا التذكير بها في هذه المناسبة.
*****
لسنا من أولئك اليساريين الذين يقومون بتعظيم الذات وتصوير الأشياء من أذهانهم والتحليق في خيالهم ورسم عالم غير واقعي وإعطاء صورة وهمية كاذبة بما يتلاءم مع أمنياتهم، أولئك الذين ينظرون الى “إنجازاتهم” من ثقب إخلاصهم الأيديولوجي داخل فرقهم ومحافلهم، ليرسموا صورة كاركتورية عن الشيوعية والماركسية، التي ليس لها علاقة بالتغيير في حياة المجتمع والبشر انسجاماً مع قول ماركس “أنَّ الفلاسفة قاموا بتفسير العالم، لكن المهمة تتقوم بتغييره”.
*****
ماذا لو لم يكن هناك ماركس القائل أنَّ الإنسان هو أثمن رأس مال، وماذا لو لم يتواجد لينين في خضم اعظم ثورة غيرت من حياة البشرية، وهو الذي قد برهن بشكل واقعي بأنَّ بإمكان الطبقة العاملة انتزاع السلطة من البرجوازية بشرط تحزّبها، وان كل المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي حصل عليها العمال شمل معهم جميع المجتمع الإنساني برمته. وهذا كله بفضل تعاليم ماركس والممارسة العملية وإبداع لينين في قيادة ثورة أكتوبر ١٩١٧.
وماذا لو لم يكن منصور حكمت، على الأقل بالنسبة لنا، هذا الجيل من الشيوعيين، لبقى ماركس حبيس الكتب في الأكاديميات، ولكان لينين يغطيه التراب بعد تحطيم تمثاله على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي أمام الكاميرات لنقل الحدث الى العالم، لأنّه كان رمزا للجسارة الطبقية مثلما عبر عنه منصور حكمت، الذي لولاه لأصبحت الشيوعية أسيرة خيال صف مغلق من المثقفين الذين يندبون حظهم وحظ المجتمع ليل نهار لعدم إمكانية تطبيقها بسبب ما يسمونها بالعادات والتقاليد المتخلفة.
*****
في الوقت الذي كان تحتف البرجوازية “بالنظام العالمي الجديد” الذي دشنته الولايات المتحدة الأمريكية قائدة العالم الحر كما لقبت نفسها بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، وفي الوقت الذي كان تمطر رؤوس الأحياء من العراقيين بصواريخ كروز والقنابل المساقطة من القاصفة بي 52 وتدمر الجسور وكل البنية التحتية للمجتمع العراقي، وعندما كان يقتل المئات من الجنود الهاربين من جحيم حرب الكويت الى البصرة والطائرات العمودية الأمريكية كوبرا وبلاك هوك تقتنص ما يمكن اقتناصها من أرواح ضحايا نظام صدام حسين الدموي، ورفعت أغطيت البالوعات لتزحف منها الى الخارج كل الترهات والفيروسات والقاذورات القومية والعنصرية، وتدشن عصر الحروب القومية ليقتل الجار جاره والأخ أخيه في الجمهوريات السوفيتية القديمة وفي يوغسلافيا، وتزامن معها، تسابق الأحزاب التي لبست ثوب الماركسية في يوماً ما، رغماً عنها، فسرعان ما قامت بخلعه باختيارها وغيّرت أسمائها أو بالتخفيف من لون يافطات الشيوعية أو بإضافة الديمقراطية إلى مزيجها، في هذا الوقت بالذات وفي ظل تلك الظروف تم الإعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي العمالي العراقي، ليرفع راية ماركس، الراية الشيوعية، وليقف بوجه كل همجية سياسات أمريكا في العراق ويفضح دعايات ما وراء “حرب تحرير الكويت” ويرفع شعار (النزعة القومية عار على البشرية) في مناطق كردستان التي أغاض الأحزاب القومية الكردية.
وتحول صوت الحزب الشيوعي العمالي العراقي، الى الصوت المدوي ضد الحصار الاقتصادي على جماهير العراق، وكانت المعارضة البرجوازية ــ التي صفقت للحصار الاقتصادي، ووصلت اليوم بحراب المارينز الى السلطة وترفع لواء الدفاع عن السيادة وشعار طرد أمريكا من العراق، نقول عن تلك المعارضة ــ كانت تطأطأ رأسها أمام شعارات الحزب الشيوعي العمالي العراقي وفعالياته ونشاطاته في الأروقة الدولية والندوات والمؤتمرات والتظاهرات في الخارج ضد جريمة الحصار الاقتصادي. كان الصوت المدوي لفضح السياسات الإمبريالية الأمريكية التي تقف وراء دق طبول الحرب وغزو واحتلال العراق. و لم يكن لتلك المعارضة ــ من حزب الدعوة والمجلس الأعلى والديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني وجماعة علاوي وعصابات الجلبي ومن لف لهم ــ من فعلٍ سوى طرق أبواب الحكومة البريطانية والأمريكية كي تشن الحرب على العراق، وكانت تسوق نفسها مطية مطيعة لسياسات الدول الداعمة، وكي يبرروا عمالتهم الفاضحة للأمريكان وحلفائهم، كانوا يتهمون الحزب الشيوعي العمالي العراقي بأنه عميل للنظام البعثي، في الوقت كان الحزب يناضل من أجل إسقاط النظام البعثي، وكان عدد من قياداته الحالية تقبع في السجون حينه وتتعرض للتعذيب، لأنها وقفت ضد الاستفتاء المشؤوم عام 1995 لتفويض صدام حسين رئيسا من جديد، ورسم لاءات كبيرة على جدران المدينة في قلعة الانتفاضة اليوم، وهي مدينة الناصرية.
إنَّ وجود الحريات النسبية اليوم في كردستان العراق، هو ثمار نضال ضروس مخضب بدم مناضلي الحزب الشيوعي العمالي العراقي طوال فترة التسعينات. لقد كانت التقاليد السياسية السائدة للأحزاب القومية الكردية هي تصفية المعارضين والمخالفين لها، وفي السنوات الأولى لسيطرتها على السلطة عام ١٩٩١ كانت سياسات الاغتيالات على قدم وساق، وكان (نذير عمر) أحد المناضلين في الحزب الشيوعي العمالي العراقي من الأسماء التي سقطت برصاص الجهاز السري للحزب الديمقراطي الكردستاني والمعروف بالبارستن في منطقة بادينان في كردستان العراق. لقد وقف الحزب ضد سياسة الاغتيالات ورفع شعار (الحرية السياسية بدون قيد أو شرط) وبادر بتشكيل تحالف عريض من الأحزاب المتواجدة في كردستان وشن حملة سياسية ودعائية واسعة في خارج العراق، إلى أن دفعت منظمة العفو الدولية بنشر تقاريرها الدورية عن تلك الجرائم وساهمت بالضغط على الأحزاب القومية للكف عن تلك السياسات، وشكل ذلك الضغط إحراجا كبيرا للسلطات الحاكمة في كردستان، مما ارغم مسعود البرزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني حينها على الإدلاء بتصريح ، بانه يشعر بالحرج والتعرق عندما يلتقي بمسؤولي منظمات حقوق الإنسان حول سجل اختراقات حقوق الإنسان في كردستان في ظل سلطة الأحزاب القومية.
انه الحزب الشيوعي العمالي الذي وقف ضد حمامات الدم التي أغرقت النساء فيها تحت عنوان غسل العار. وقد وصل عدد ضحايا النساء الى 5000 امرأة خلال سنوات قليلة لم تتجاوز ستة سنوات من عمر سلطة الأحزاب القومية، انه الحزب الذي قلب المعادلة الاجتماعية السائدة حينها في كردستان العراق ليعيد “العار” ويوشمه ” على جبين كل شخص يتجرأ على النساء ويمتهن قيمة المرأة تحت أية ذريعة. وقد أرغمت نشاطاته في داخل العراق وخارجه السلطات الحاكمة أن تشرع قوانين تحد من قتل النساء. لقد وضعت نضالاته حدا للجماعات الإسلامية التي كانت توزع المال على الأطفال وترسلهم للتجمهر حول النساء السافرات أو غير المحجبات ويصيحون ويهتفون ورائها لإحراجها أمام الناس وفي الأسواق والشارع، ويلاحقونها كي تقبع في البيت أو تلبس الحجاب. لقد قام كوادر لحزب بتأديبهم وتلقينهم درسا ووضع حدا لتطاولاتهم، بحيث أصبح لبس المرأة شأن خاص بها ولا يمكن لاي طرف التدخل فيه.
ومنذ غزو واحتلال العراق، كان الحزب مناضلا شرسا من اجل طرد الاحتلال والوقوف أمام التقسيم القومي والطائفي وإعادة المدنية الى المجتمع العراقي. لقد ساهم بتأسيس منظمة جماهيرية علمانية مستقلة لطرد الاحتلال وفرض التراجع على الجماعات الإسلامية التي حولوا العراق معا الى مستنقعا للإرهاب العالمي. وعبر مؤتمر حرية العراق نظم جبهة عالمية تناصر جماهير العراق ونضالاته من أجل الحرية والأمان والعيش الكريم. لقد كان صخرة صلدة بوجه عصابات جيش المهدي وجيش عمر والقاعدة ورفع شعار (لا شيعية ولا سنية.. الهوية إنسانية) في عام ٢٠٠٦ بعد تفجيرات سامراء، وقد أغاض هذا الشعار الجماعات الإسلامية بشيعيها وسنيها، مما دفع عصابات القاعدة بتمزيق الشعار في منطقة الصليخ في بغداد، وفي جامع براثا الكائن في منطقة العطيفية في بغداد، كان جلال الدين الصغير القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي يتهجم على هذا الشعار ويحرض على مؤتمر حرية العراق والحزب الشيوعي العمالي العراقي في خطبه الدينية، لأنَّ إنهاء التقسيم الطائفي والحرب الطائفية يحرم الصغير وأمثاله من نصيبه ونصيب جماعته من الفساد الإداري والمالي.
انه من رفع مطلب تأسيس دولة بهوية علمانية دون تردد وبكل جرأة ودون أي يغلفه بمقولات مثل المدنية وغيرها التي تعني طأطأة الرأس أمام القوى الإسلامية. لقد اكد الحزب وما يزال، على عدم خجل القوى الإسلامية من تشريع قوانين على أسس دينية مخالفة لكل المواثيق الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، وهي تعامل المرأة كمواطنة من الدرجة الثانية، ولماذا لا نطالب بأن تكون العلمانية أساس لفصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم وتعامل البشر في العراق بهوية المواطنة.
إنَّ الحزب الشيوعي العمالي العراقي، أعاد الشيوعية والماركسية الى طبقتها، وتم انتزعها من فذلكات وتخيلات اليساريين المترفين بالماركسية. إنَّ الشيوعية هي الراية الفكرية والسياسية لتيار داخل الطبقة العاملة، انه التيار الذي لا يختلف عن بقية التيارات سوى ببأسه وحزمه ودفاعه عن استقلالية صف الطبقة العاملة والدفاع عن مصالحها في كل المحطات النضالية من حياة الحركة العمالية، وان كل ما يدور من صياغة تشريعات وقوانين هو جزء من الصراع الطبقي، صراع بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية الحاكمة.
إنَّ سن قانون حرية التعبير والحريات النقابية القابعة مسودتهما في البرلمان هو جزء من الصراع الطبقي وهدفها تكبيل الطبقة العاملة ووضع العراقيل أمام نضالاتها. فالبرجوازية تدرك أنَّ أي إنجاز تكسبها الحركة العمالية فهي تكتسبها لعموم المجتمع.
وهكذا وقف الحزب عبر كتلته السياسية في مؤتمر حرية العراق بتشكيل الجبهة المناهضة لقانون النفط والغاز، أي مناهضة السرقة صريحة والفاضحة للمزيد والمزيد من ثروات العراق. وكانت جبهة عمالية صرفة تشكلت من قادة العمال في الاتحادات العمالية حينها ونظمت العشرات من الاحتجاجات والندوات والمؤتمرات الصحفية لفضح ماهية مشروع قانون النفط والغاز، وقد علق عليه حينها نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بانه لا ضير من رفض البرلمان للمشروع ولكن المشكلة تكمن عندما تتلقفها المنظمات والاتحادات العمالية من أجل إحباط المشروع المذكور. وقد نجحت تلك الجبهة بفرض التراجع على تقديم مشروع القانون.
ولم يدخر التيار الشيوعي المتحزب جهدا بدعم ومساعدة العمال في قطاعات عديدة بتنظيم انفسهم وتشكيل منظماتهم المستقلة بما فيه تنظيم العاطلين عن العمل في منظمة مستقلة سميت باتحاد العاطلين، الذي نظم اعتصام مدة ٤٥ يوم عام ٢٠٠٣، وشكل ضغطا على الاحتلال ليشن حملة باعتقال العديد من فعاليه ونشطائه. ولقد استطاع الحزب في ترسيخ مسالة ضمان البطالة واصبح جزءا أساسيا في الأدبيات السياسية في المجتمع التي كانت غائبة قبل الاحتلال.
وبدلا من الوقوف والاستسلام امام سطوة الرجعية التي تقودها المليشيات والأحزاب الإسلامية والمدعومة من الدول الإقليمية وسياسات الاحتلال، وبالرغم من كل قمعها وانفاق الأموال المسروقة من جيوب العمال والكادحين على نشر الخرافة والترهات والعصابات المأجورة لتركيع المجتمع، أعاد الحزب الشيوعية الى معناها الأصلي وصياغتها الحقيقية، وهي التغيير. فالشيوعية التي لا تفكر بالتغيير لا معنى لها.
وعليه وقف الحزب بوجه كل تلك القوى الرجعية وشارك بكل فعالية ونشاط في محطات نضالية عديدة وآخرها كانت انتفاضة أكتوبر- تشرين 2019. وحين أسدل الستار على الانتفاضة ولم تصل الى محطتها النهائية، ناضل بكل شراسة لعدم سيادة الإحباط واليأس في صفوف المجتمع أو على الأقل في صفوف صف كبير من فعالي الانتفاضة. واستطاع مع العديد من النشطاء والفعالين بإعادة الأمل من خلال تنظيم صفوف فعالي عدد من الحركات الاحتجاجية والمشاركين في انتفاضة أكتوبر والتحررين، وكان تأسيس إطار تنظيمي جديد هدفه إعادة الحرية والكرامة والاعتبار والقيمة الإنسانية للبشر في العراق وفرض التراجع على القوى الرجعية المتكالبة على جميع مفاصل المجتمع وإزاحتها من السلطة.
وبالرغم من كل المحطات النضالية العديدة التي لا يمكن ذكرها أو إحصائها جميعها، إلا أن الحزب الشيوعي العمالي العراقي بعيد عن قلب الطاولة على القوى الإسلامية والتيارات القومية وسياسات الإمبريالية العالمية في العراق.
بيد أنَّه يمكن القول من دون أية مبالغة، بأنَّه لو لا وجود هذا الحزب في العراق، لكانت الشيوعية تعبر عk أي شيء لكن لا تعبر على التغيير في حياة المجتمع، ولكانت الحركة التحررية والمساواتية لا تتجاوز المكاتب الفكرية والفرق اليسارية الصغيرة ومنظمات المجتمع المدني.
لتكون مناسبة تأسيس الحزب محطة جديدة ونقطة انطلاقة أخرى للمضي نحو تأسيس مجتمع يكون فيه الخيار للإنسان كما قال منصور حكمت بأن الاشتراكية هي إعادة الخيار للإنسان. وعليه من حق الشيوعيين العماليين التفاخر بتأريخهم النضالي.