توما حميد
لا يمكن تقيم الصراع الحالي في الشرق الاوسط وكل عمليات الابادة الجماعية والتطهير العرقي الذي تقوم به اسرائيل وسبل انهائها، دون معرفة التوازنات الدولية الحالية وتأثير صعود البريكس بقيادة روسيا والصين وتراجع مكانة الغرب على العموم. في اول عقدين بعد انتهاء الحرب الباردة كان الغرب بقيادة امريكا يختلق الحجج من اجل الذهاب الى الحروب، احتلال بلدان وتدبير عمليات لتغير انظمة غير مرغوب بها عند الغرب ليس بالمعنى الجغرافي بل الغرب الذي يشمل امريكا وبريطانيا والاتحاد الاوربي واسرائيل واستراليا ونيوزيلندا واليابان و كوريا الجنوبية وتايوان وحفنة من الدول الصغيرة في الكاريبي والمحيط الهادي الاخرى من اجل الابقاء على وحدة هذا القطب تحت قيادة امريكا. لهذا شهدنا حروب بين عامي 1991 و2003 ضد العراق و احتلال افغانستان في 2001 وبعدها الحرب ضد ليبيا وسوريا وغيرها من التدخلات. اليوم بات الامر مختلفا الى حد كبير. رغم ان امريكا كإمبراطورية في طور الافول تسعى الى اثارة الصراعات وعدم الاستقرار وتميل الى التهديد والابتزاز والعنف من اجل ايقاف مسار هذا الافول و تخوض حرب بالوكالة في اوكرانيا وحرب بالوكالة في الشرق الاوسط وتخلق تشنجات مع الصين في بحر الصين الجنوبي، الا انها ليست مستعدة و مهيئة للدخول في حرب مباشرة مع اي قوة معتبرة منذ سنوات وخاصة بعد الهزيمة في افغانستان والاستنزاف الذي تعرضت له من خلال حرب اوكرانيا. وهذا ينطبق على الغرب ككل. لهذا يحاول الغرب بقيادة امريكا تجنب حرب شاملة ضد ايران ويقوم بالضغط على اسرائيل لتجنب التسبب في مواجهة كبيرة مباشرة مع ايران يتورط هو الاخر فيها .
الاسباب والعوامل هي كثيرة ومتشعبة لمحاولة تجنب مواجهة مع ايران، اذا ان الاخفاقات التي كان نصيب التدخلات السابقة اي الاخفاق في العراق وأفغانستان وسوريا وشبح اخفاق مدوي في اوكرنيا والخسائر المادية التي ترتبت على تلك التدخلات وعجز الميزانية الامريكية هي عوامل مهمة. كما ان صعود قطب قوي متمثل بروسيا والصين وقدرته على حشد عدد كبير من دول متوسطة الحجم والامكانات حوله، هو عامل اخر مهم جدا. لقد تمكنت الدولة القومية في روسيا من اعادة بناء نفسها والخروج من الشرذمة و الركود الذي لحق بها ابان انهيار الاتحاد السوفيتي. كما تمكن النظام في الصين من خلال رأسمالية هجينة اي المزج بين رأسمالية سوق الحر ورأسمالية الدولة من تحقيق نمو اقتصادي قل نظيره في التاريخ البشري بحيث اصبحت الصين اليوم قطب عالمي اقتصادي ومالي وتكنلوجي وقطب عسكري بشكل متزايد. ليس هناك شك بان وقوف هذا القطب خلف ايران يزيد من قدرتها في هذه المواجهة مع اسرائيل المدعومة من الغرب. فقد تمكنت ايران من تفادي اضرار الحصار الذي فرضه الغرب عليها وبدأ الاقتصاد الايراني يشهد نمو قوي نسبيا في السنوات الاخيرة بسبب دعم هذا القطب. كما قامت روسيا بنقل التكنلوجيا الحربية الى ايران، وغيرها من اطراف هذا القطب. هذا ما يفسر قدرة كل من الصين، وكوريا الشمالية وايران من انتاج صواريخ فرط صوتية بعد وقت قياسي من انجاز روسيا لهذا الاختراق التكنلوجي وقبل ان يتمكن اي بلد غربي من تحيق مثل هذا التقدم. ان انكشاف زيف الغرب وانفضاح المساعي السابقة لتسويق الروايات والحجج حول الذهاب الى الحرب ومحاولة تغير الانظمة المعادية واثارة الحروب الاهلية وعدم الاستقرار والقلاقل والتشنجات بسبب التطور التكنلوجي بما فيه ظهور التلفونات الخلوية ووسائل التواصل الاجتماعي بحيث لم تعد وسائل الاعلام الرسمية المصدر الوحيد للأخبار ونشر الوقائع، قد لجم الغرب. كما ان حجم ايران من الناحية الجغرافية والسكانية هو عامل يعيق اي محاولة احتلال او تدخل عسكري بري ضد النظام وحتى توجيه ضربة قاتلة للنظام الايراني. لقد تفادت اسرائيل وبتوجيه من الغرب ضرب البرنامج النووي لان منشئات هذا القطاع موزعة على عشرات المواقع على عموم ايران وهي محصنة بشكل جيد. كما تفادت ضرب المنشئات النفطية والاقتصادية الاخرى لان مثل هذا الاجراء سوف يؤدي الى ارتفاع اسعار النفط بشكل جنوني ودخول الاقتصاد الغربي والعالمي في ركود عميق وخاصة ان ايران قد تقوم بخنق مضيق هرمز في هذه الحالة. وسوف يطلق مثل هكذا عمل يد ايران لضرب المنشئات الاقتصادية الاسرائيلية من منشئات الغاز الطبيعي، ومصافي التكرير، ومحطات الطاقة مما سيكلف اسرائيل عشرات المليارات ودفع كل المجتمع الاسرائيلي في ازمة عميقة وجودية وهو امر لا يمكنها تحمله.
ولكن العامل الاهم في تفادي الغرب للحرب في الشرق الاوسط هو الخوف من فلتان الاوضاع واندلاع الثورات في البدان الغربية نفسها. لم يعد من السهل في الوقت الذي يواجه الانسان في الغرب مايسمى بأزمة غلاء المعيشة ان تذهب الحكومات الى حروب اختيارية يمكن تفاديها. لذا نجد ترامب يتحدث عن انهاء الحرب في اوكرانيا و لجم السياسة العسكرتاري والتدخلية الامريكية في الخارج لان لامريكا مشاكل كافية في الداخل يجب التعامل معها حسب قوله. ان احتمالات صعود مايسمى ب” اقصى اليمين” و” اقصى اليسار” يقلق المؤسسة الحاكمة في الغرب كمؤشر لاحتمال حدوث حروب اهلية وثورات في هذه البلدان.
يجب الاشارة رغم كل هذه الوقائع، لايمكن استبعاد خطر الحرب بشكل كاملا. من جانب اخر، بالرغم من كل مايقال فان ميزان القوى يميل لصالح ايران والقطب الذي يقف خلفها. رغم كل النشوة التي شعرت به الطبقة الحاكمة في اسرائيل بعد تفجير البيجرات واغتيال كامل قيادة حزب الله وشخصيات مهمة من حماس اهمها اسماعيل هنية ويحيى السنوار وقتل الاف من النساء و الاطفال وتهجير الملايين من الفلسطينيين واللبنانيين، الا ان اسرائيل في مازق حقيقي. فالجيش الإسرائيلي مرهق ومنهك. نصف الجنود الاسرائيليين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة ويشهد الجيش معدلات عالية من الانتحار. ورغم كل الدعايات لم يتمكن من القضاء على حماس بعد سنة من الاعمال العسكرية. كما ان الجيش الاسرائيلي يراوح في مكانه في محاولة اجتياح جنوب لبنان. باختصار لم يتمكن هذا الجيش من تحقيق اي من الاهداف التي رسمت له من اعادة الإسرائيليين المهجرين من الشمال او دفع حزب الله الى مابعد نهر الليطاني، او تحقيق الردع ضد حزب الله او ايران والقضاء على حماس. وليس هناك اي مسار لخروج اسرائيل من هذا المأزق. لقد كان لإسرائيل نافذة مباشرة بعد اغتيال السنوار للخروج كمنتصر من خلال اعلان النصر بعد القضاء على قيادة حزب الله وقتل السنوار والدخول في مفاوضات جدية ولكن طبيعة الحكومة الاسرائيلية اليمينية، والعنصرية التي تؤمن بالتفوق العرقي ووجود شخصيات مثل بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير حال دون ذلك. لقد جاء الرد الاسرائيلي الباهت والفاشل على ايران ليزيد من الانطباع بان من له قوة ردع هو ايران وليست اسرائيل. ولكن من الواضح ان العمليات العدائية بين الطرفين التي تعكر جو ملايين من البشر وتسبب في اضطراب حياتها سوف تستمر وربما تتصاعد.
رغم انسداد افاق إسرائيل الا انها تمتلك قدرة هائلة على القتل والتدمير ضد المدنيين وسوف تستمر المذابح والابادة الجماعية. وليس اي من الاطراف سواءً الغرب أو القطب الروسي-الصيني او ما يسمى بمحور المقاومة مهتم وفي عجلة لإنهاء المذابح اليومية في فلسطين ولبنان. الغرب يريد ابقاء الشرق الاوسط تحت نفوذه من خلال اسرائيل وهذا يتطلب دعم إسرائيل حتى عندما تقوم بعمليات الابادة الجماعية. ان مايسمى بمحور المقاومة يتغذى على جرائم اسرائيل. روسيا والصين تستفاد من الحرب في الشرق الاوسط لأنها تبقي الغرب مشغولا ولهذا لاتعمل بجدية لإنهاء هذه المأساة. وليس معلوما كم من الوقت ستستمر هذه المذابح اذا تركت مسألة ايقافها وحل قضية فلسطين للدول والحكومات البرجوازية، اذ ليس هناك اي معيار قانوني واخلاقي يحكم العلاقات الدولية في الوقت الحاضر. هذا لايعني بان مشاعر رئيس هذه الدولة اوتلك لاتخدش لمشاهدة منظر قتل الاطفال في غزة ولكن يعني ان المعادلات والمعايير والاخلاق الحالية التي تحكم العلاقات الدولية تحول دون ان يترجم هذا الغيظ الى خطوات عملية لوقف الجينوسايت في الشرق الاوسط.
من هنا تبرز الحاجة الى بناء جبهة عالمية تكون الطبقة العاملة وخاصة في الغرب عمودها الفقري لوقف هذه المأساة. بإمكان الطبقة العاملة اذا تنظمت من خلق ضغط مؤثر على الطبقة الحاكمة في الغرب لوقف العربدة التي تقترفها اسرائيل من خلال وقف الدعم المقدم لهذه الدولة الهمجية والعنصرية. ان تشكيل الجبهة العمالية الموحدة للدفاع عن الشعب الفلسطيني هي خطوة مهمة في هذا المسعي. يجب تقوية والتعجيل في هذا المسعى قدر الامكان من اجل وقف الصراعات وعمليات الابادة الجماعية والتطهير العرقي في اسرع وقت.