
خالد حاج محمدي
مرّ حوالي عامين على الحرب الشاملة والعدوان الإسرائيلي البري والجوي على غزة، تحت ذريعة هجوم حماس في السابع من أكتوبر. حربٌ كان مُفترضاً أن تُدمر حماس في لمح البصر، وتُحرر الأسرى الإسرائيليين، وتعيد سيطرة إسرائيل على قطاع غزة. هذه الحرب لا تزال مستمرة رغم تحويل القطاع إلى ركام وارتكاب مجزرة واسعة بحق سكانه. لكن القاء نظرة على أهداف إسرائيل من هذه المجزرة ونتائجها، والإصطفافات والصراعات الدائرة حولها والتي لا تزال جارية، ومستقبل إسرائيل وجماهير فلسطين والحركة العالمية الداعمة لهذا الشعب، بعد هذين العامين، أمرٌ بالغ الأهمية.
السابع من أكتوبر وحماس كانا مجرد ذريعة
شكّل هجوم حماس في السابع من أكتوبر ذريعةً لإسرائيل لتنفيذ مخططها القديم القاضي بالإبادة الشاملة لجماهير فلسطين والسعي لإفنائه وضمّ ما تبقى من أراضي فلسطين، كخطوة على طريق “شرق أوسط جديد” تُهيمن عليه إسرائيل. لقد أصبح “محاربة حماس وإرهابها” متاريسَ اختبأت خلفها الدولة الإسرائيلية الإرهابية والحكومات الداعمة والشريكة لها، في ظلّ جهازها الدعائي والبروباغاندا الواسع كجزء من آلة حربها، لترتكب واحدة من أبشع الجرائم والإبادات الجماعية في تاريخ البشرية بحق جماهير فلسطين. ذريعةٌ للأسف اشتراها العديد من القوى السياسية، وحتى اليسارية و”المعارضة” لإسرائيل، كأمرٍ واقعٍ لما يجري، فركزوا سياساتهم حول “حرب إسرائيل وحماس” أو “حرب القطبين الرجعيين”، وتغاضوا عملياً عن أهداف “إسرائيل” المتمثلة في إفناء جماهير فلسطين واحتلال أراضيه وممارسة التطهير العرقي.
بعد عامين من السابع من أكتوبر، يعلن قادة إسرائيل رسمياً عن احتلال فلسطين كاملةً وتهجير سكانها أو إبادتهم، كجزء من مخططهم الأوسع المسمى “استعادة كامل أرض الميعاد لليهود”، الذي يتجاوز بكثير حدود أراضي فلسطين. هذه المزاعم، إلى جانب تكثيف الهجمات وقصف المدنيين الجوعى والمشردين في غزة، والتوسع في بناء المستوطنات بالضفة الغربية، وباقي حروب وإجراءات إسرائيل في المنطقة، جعلت نظريات “الحرب على حماس” و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” و”الحرب لتحرير الرهائن”… إلخ، نظريات تافهةً تماماً وبلا أساس، وهو ما أعلناه منذ البداية.
بعد عامين من المجزرة والجرائم الإسرائيلية، لا تزال الحرب في قطاع غزة مستمرة، بل إنهم لم يتمكنوا حتى من احتلال غزة كلياً. بعد عامين من الإخفاق، يعلن قادة إسرائيل بدافع اليأس والجنون عن حرب شاملة ضد مدينة مدمرة وشعبها الجائع والمشرد، قائلين إن “السيطرة الكاملة عليها ستستغرق ستة أشهر”. ويعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، بأعلى درجات الوقاحة، أن “غزة تحترق”. ويدّعي أنهم بعد غزة سيحاربون خطوةً خطوةً لضم كامل “أرض الميعاد” التي “مُنحت” لليهود قبل أربعة آلاف عام، والتي تشمل في الحقيقة أجزاءً من سوريا ولبنان واليمن ومصر… إلخ. هذا هو مخطط “إسرائيل” ويعلنونه رسمياً وبكل وقاحة. في هذا الإطار، وخلال العامين الماضيين، احتلت إسرائيل أجزاءً من لبنان وسوريا بالإضافة إلى فلسطين.
إن عدم تحقيق إسرائيل للنصر، وعدم تمكنها من بلوغ أيٍ من أهدافها المعلنة، إلى جانب تصاعد موجة الكراهية والاحتجاجات العالمية الشاملة ضد جرائمها، وخوف شركائها وداعميها من اتساع رقعة هذه الاحتجاجات وضغطها على حكوماتهم الغربية، واحتجاجاتهم الضعيفة المرغمة تحت هذا الضغط، وسعيهم للتباعد عن إسرائيل، وعزلتها المتزايدة، كل ذلك قد أفقد قادة هذه الدولة صوابهم. إنقطع حبل قادة إسرائيل، وبدافع اليأس، بلغوا نقطة اللاعودة، فهاجموا كل مكان ممكن من فلسطين إلى لبنان وسوريا واليمن وإيران وقطر، وسفكوا الدماء. لقد حاولوا بكل السبل جرّ المنطقة إلى حرب شاملة ودموية لينقذوا أنفسهم من المأزق والأزمة والعزلة وغياب المستقبل.
الحرب على إيران والإخفاق فيها
إن سعي إسرائيل لجرّ أمريكا إلى حرب شاملة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية سياسة قديمة. الهدف الاستراتيجي لإسرائيل وحاميها في Establishment (الهيئة الحاكمة) الأمريكية هو تشكيل شرق أوسط جديد تتمحور حوله وتُهيمن عليه إسرائيل. وإن تدمير الدول والقوى الكبرى، بما فيها إيران كإحدى القوى الإقليمية، هو جزء من هذا المشروع. جاء الهجوم الأخير على إيران في وقت كانت إسرائيل تعيش فيه مأزقاً وعزلةً تامين. تم إقناع إدارة ترامب بهذا الهجوم، وهو نتاج عمل متعدد الجوانب استمر لسنوات، بهدف إزاحة طيف من أهم المسؤولين الكبار في الجمهورية الإسلامية، وإسقاط قمة هرم السلطة في حرب قصيرة، والتغيير الإسرائيلي-الأمريكي للنظام. إن الهجوم على إيران، الذي جاء أثناء المفاوضات الإيرانية-الأمريكية ومباغتاً للجمهورية الإسلامية، ورغم ما سببه من ضربات موجعة للنظام الإيراني ومجازر بحق جماهير إيران، لم يحقق أهدافه. بعد 12 يوماً من هذه الحرب وردّ الجمهورية الإسلامية، وقصف إسرائيل وإلحاق خسائر فادحة بها، اضطرت إسرائيل إلى التراجع. أصبح طلب إسرائيل بوقف إطلاق النار، والهجوم الأمريكي على المنشآت النووية، والادعاء بهزيمة الجمهورية الإسلامية وتدمير منشآتها النووية، هو الطريق الذي اختارته إدارة ترامب لتسميته “نجاحاً” لها ولإسرائيل، من أجل “تراجعٍ يحفظ ماء الوجه”. في هذه الحرب، لم تفشل خطة ومشروع إسرائيل فحسب، بل بالإضافة إلى ذلك، ذهبت قوة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر” و”القبة الحديدية” التي لا تُخترق أدراج الرياح أمام أعين العالم. علاوة على ذلك، وعلى عكس توقعات إسرائيل وحلفائها والمتعاونين معها في المعارضة الإيرانية، فإن جماهير إيران المناصرة للحرية، ورغم كرهها للجمهورية الإسلامية، صدحت بـ “لا” كبرى للقصف والهجوم على إيران وإسلوب تغيير النظام الذي تقوم به إسرائيل-أمريكا. إن أجواء التهديد والحرب والإعلان عن هجوم جديد على إيران من قبل قادة إسرائيل، وبغض النظر عن خطر اندلاع حرب جديدة، لا تنفي شيئاً من فشل وإخفاق إسرائيل حتى الآن.
الهجوم على قطر… مجازفة كبرى وعواقب وخيمة
بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران وفشله، عادوا وهاجموا هذه المرة قطر، وذلك أيضاً في خضم المفاوضات مع حماس حول ما يسمى بصفقة ترامب لـ”إنهاء حرب غزة”، وتحت تهديد حماس بأنها “ستواجه مستقبلاً مظلماً” إذا لم تقبل صفقة ترامب. كان الهدف من هذا الهجوم هو اغتيال الوفد المفاوض لحماس، وهو ما أعلنته إسرائيل رسمياً. هذا الهجوم أيضاً لم ينجح ونجا قادة حماس. كان من المفترض لهذا الهجوم، بقتل قيادة حماس والتباهي به كـ”انتصار عظيم” لإسرائيل وأمريكا، أن يغطي على فضيحة مهاجمة بلد هو الحليف الرئيسي لأمريكا ومضيف مفاوضات إسرائيل وحماس حتى الآن، وذلك أثناء المفاوضات ذاتها. أجبر الفشل في هذا الهجوم ترامب وإدارته على الإعلان بأنهم لم يوافقوا على الهجوم وأنهم علموا به متأخراً، معربين عن أسفهم. لا شك أن أحداً لا يصدق هذه الادعاءات الباطلة من ترامب. أعلنت إسرائيل رسمياً أن الهجوم على الدوحة تم بموافقة وعلم الحكومة الأمريكية. وبغض النظر عن ذلك، فإن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط موجودة في قطر، وحكومة قطر تعتبر نفسها حليفاً تاريخياً لأمريكا، والأجواء القطرية تحت سيطرة أمريكا، ومن المستحيل الهجوم على قطر بطائرات حربية دون علم وإذن أمريكا.
كان وقع هذا الفشل ثقيلاً ليس على إسرائيل فحسب، بل خصوصاً على أمريكا بوصفها الداعم الرئيسي لإسرائيل. وحدت هذه الحادثة كل الحكومات “العربية والإسلامية” ليس فقط ضد إسرائيل، بل ضد أمريكا أيضاً. أحبطت كل مخططات أمريكا وإسرائيل لتحسين العلاقات مع السعودية وغيرها، والتي كانت في خدمة أهدافهم طويلة المدى. وأجبرت هذه الحكومات، جميعها وحتى أكثرها خنوعاً وتبعية، على إعادة النظر في علاقاتها واتفاقياتها مع الحكومة الأمريكية حتى الآن. لقد كانت هذه المغامرة العسكرية والاستعراضية باهظة الثمن بالنسبة للغرب عموماً وعلى رأسه أمريكا، وهزيمة كبرى لإسرائيل.
إن موافقة الحكومة الأمريكية على الهجوم الإسرائيلي على قطر والفشل فيه، بالإضافة إلى زيادة إخفاقات إسرائيل في المنطقة وضبابية مستقبلها، أضعفا موقع أمريكا في الشرق الأوسط وبين دول “العالم العربي” أكثر من أي وقت مضى. إن الأجواء العامة في البلدان العربية وكره الجماهير لأمريكا ودورها التخريبي التاريخي في المنطقة، ودور أمريكا المخرب في فلسطين كداعم رئيسي لإسرائيل، كل ذلك يضع الحكومات الحاكمة في المنطقة تحت ضغط داخلي متزايد يطالب بعدم التعاون مع أمريكا واتخاذ إجراءات عملية ضد إسرائيل دفاعاً عن جماهير فلسطين. في غضون ذلك، يسعى المنافسون العالميون للكتلة الغربية، تحت شعار “الدفاع عن الشعب الفلسطيني” و”ضد الإبادة الجماعية في فلسطين” والاحتجاج على اعتداء إسرائيل وأمريكا على حرمة قطر، إلى تعقب مصالحهم في المنطقة وتعزيز موقعهم السياسي والعسكري.
على عكس أهداف أمريكا في المنطقة، فتح هذا الوضع مجالاً أكبر لروسيا والصين للتقارب مع حلفاء أمريكا التقليديين في المنطقة. وبهذا الاعتبار، أتاح فرصة لتقدم الصين وزيادة نفوذها في المنطقة، وتقارب هذه الدول مع القطب المنافس لأمريكا والغرب، أي قطب الصين وروسيا ومجموعة بريكس. وبغض النظر عن عواقبه المدمرة لأمريكا، عزل هذا الإجراء إسرائيل في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى، وتواجه علاقاتها مع دول المنطقة، بما فيها السعودية ومصر وحتى استمرار العلاقة مع الأردن، مشاكل جدية على المدى القصير، ويضع هذا الاجراء مستقبلاً مظلماً تماماً أمام الدولة الفاشية الإسرائيلية على المدى الطويل.
الحركة العالمية للدفاع عن فلسطين ومكانة إسرائيل
إن المكانة الحالية لإسرائيل، وبغض النظر عن خروجها عن السيطرة وحروبها اليومية وهجماتها المستمرة على دول المنطقة، أضعف من أي وقت مضى. لقد أُرجئت الأحلام والمخططات الاستراتيجية لشرق أوسط جديد تُهيمن عليه إسرائيل، في خضم التحولات العالمية الكبرى وضعف أمريكا الشديد والانقسام العميق في الكتلة الغربية وصعود أقطاب أخرى من الصين إلى روسيا وكتلة بريكس، بالإضافة إلى ابتعاد الحكومات العربية عن أمريكا. لكن الأهم من ذلك كله هو الحركة التي انطلقت دفاعاً عن جماهير فلسطين وضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها الدولة الإسرائيلية. إن هذه الحركة اليوم أقوى من أي وقت مضى. لقد شملت هذه الحركة كل المجالات الاجتماعية من العمال والمثقفين، والجامعات، والمدارس، وصفوف الفنانين وصناع السينما، والمحامين والرياضيين… إلخ. هذه الحركة لم تضغط بشدة على إسرائيل فحسب، بل أيضاً على الدول الداعمة لها من أمريكا وبريطانيا إلى ألمانيا وفرنسا… إلخ. حركة يأست تماماً من الحكومات والمؤسسات الدولية، وخرجت إلى الساحة مستقلةً تقف على قدميها.
ليس من مجال هنا لشرح النطاق الواسع للاحتجاجات والحملات الكبيرة الجارية ضد إسرائيل، لكن تنامي دور الطبقة العاملة في هذه الحركة وتأثيراتها، سواء على المدى القصير ضد إسرائيل والحكومات الغربية، أو على المدى الطويل وزيادة الوحدة داخل الطبقة العاملة على المستوى العابر للقوميات، هو ظاهرة مبشرة للإنسانية المناصرة للحرية، وفي الوقت نفسه مرعبة جداً ومدمّرة للبرجوازية العالمية وخصوصاً في الغرب كمركز لهذه الاحتجاجات. لقد شملت هذه الحركة قطاع النقل خصوصاً في الموانئ من أستراليا إلى السويد واليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا وأمريكا… إلخ، وانضم إليها العديد من العمال في مراكز صناعة الأسلحة أيضاً، بما في ذلك في أمريكا وعدة دول أخرى. ضغط هذه الاحتجاجات في بعض الدول مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، مع دعوات النقابات العمالية لإضرابات عامة، قرّب الأجواء الاحتجاجية في هذه البلدان من الانفجارات الاجتماعية ووضع الحكومات في مأزق. انطلاق عشرات السفن كقوافل تضامنية مع جماهير فلسطين ومئات المبادرات الأخرى في هذه الفترة، تدل على اتساع رقعة هذه الحركة وقوتها الهائلة، التي سينضم إليها يومياً جماهير أوسع بشكل فعال. هذه الحركة لا تني عن النمو، ومطالبتها ليست فقط مقاطعة إسرائيل وإنهاء مجزرة الشعب الفلسطيني ومحاكمة قادة إسرائيل كمجرمي حرب، بل أيضاً محاكمة قادة الحكومات الغربية من أمريكا وبريطانيا إلى ألمانيا وفرنسا… إلخ، بتهمة التواطؤ مع قادة إسرائيل. إن سباق الحكومات المختلفة للاعتراف بدولة فلسطين، وانضمام شركاء إسرائيل الرئيسيين إلى هذه الظاهرة واختبائهم تحت هذه الراية، بغض النظر عن النفاق والخداع المقرفين المصاحبين له، هو طريق للهروب من ضغط هذه الحركة على هذه الدول.
إن اتساع نطاق الاحتجاجات والإضرابات العمالية ضد إسرائيل، والمطالبة بوقف إرسال الأسلحة ومقاطعة إسرائيل كلياً، سيتجاوز لاحقاً إسرائيل ليكون موجهاً ضد العسكرية وسباقات التسلح واعتداءات البرجوازية وحكوماتها اليومية على حياة هذه الطبقة.
لقد وضعت هذه الحركة العالمية الدولة الإسرائيلية في موقف أكثر هشاشة من أي وقت مضى، وأقل مستقبلية من أي فترة. إن مجزرة جماهير فلسطين، التي تجري الآن بشكل شامل ووحشي، وإن أسعدت بعض الفاشيين والمجرمين في إسرائيل، إلا أنها لن تجلب لهذه الدولة الإرهابية سوى مزيد من العزلة والكراهية. هذه الحقائق قد أفقدت قادة الدولة الإسرائيلية صوابهم، وأجبرت اليوم فاشيين مثل نتنياهو على الإعلان رسمياً أنهم سيواجهون مزيداً من العزلة وأن عليهم حتى من الناحية العسكرية والتسليحية السير نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي. لكن هذا أيضاً لن ينقذ إسرائيل. إن نهاية عمر هذا الفاشي السافر والمنفلت تقترب بسرعة متزايدة. لا ينبغي السماح في هذا المسار بأن تقدم جماهير فلسطين البريئة المزيد من الضحايا.