سقوط أوهام التيار المدني وأفق حركتنا بعد انتخابات 2025

سمير عادل
حين يعيش البعض داخل أوهام يصنعونها ويُصدّقونها داخل ذهنية رمادية، فإن الارتطام بالواقع يكون قاسيًا، وقد يُسقطهم خارج المشهد كما يسقط من يهوِي من بناية على الأرض.
وهذا بالضبط ما نراه اليوم في موجة الإحباط العميقة التي تجتاح قطاعًا واسعًا ممّن يعرّفون أنفسهم بالمدنيين والشيوعيين واليسار والعلمانيين، بعد انتخابات 11 نوفمبر 2025 التي خرجوا منها بلا مقعد واحد في جميع المحافظات.
يرتبط هذا الإحباط بعاملين أساسيين: الأول هو النظر إلى دخول البرلمان وكأنه إنجاز عظيم بحد ذاته، وهو ما جعل هذا التيار يعتبر الوصول إلى البرلمان غايته العليا، دون أن يضع نصب عينيه انه ليس اكثر من منبر يكون فيه صوت الحرية والمساواة، وصوت العمال والنساء التوّاقات للتحرر، وصوت الشباب الباحث عن حياة كريمة، وصوت المثقفين الساعين للانعتاق دون خوف من رقيب أو صياد يتربص بهم.
أما العامل الثاني، فيقوم على ذهنيته النخبوية المنعزلة عن الجماهير العمالية والكادحة، إذ ينطلق هذا التيار في تصوّره السياسي من تضخيم الذات عبر تلك الذهنية النخبوية ذاتها.
لذلك جاءت نتائج الانتخابات صدمة كبيرة له منذ اللحظة الأولى. فبدلاً من مراجعة التجربة، هناك من شنّ هجومًا على الجماهير واتهمها بالرجعية والماسوشية والزبائنية، أو حمّلها مسؤولية عدم حصوله على الأصوات الكافية بحجة أن الأغلبية قاطعت الانتخابات، أو أنه أخذ نسبة المشاركة التي أعلنتها المفوضية كأمر مسلّم به دون أي تحليل للأرقام أو تقييم لمكانته الحقيقية في المجتمع ليقع في شراك تقريع أو جلد الذات.
وكان الأجدر أن يجلس قادة هذا التيار لتقييم تجربتهم، محل تعليق أسباب فشلهم على عوامل لا تتعلق بانكفاء الجماهير عن المشاركة السياسية، مثل التزوير والمال السياسي والقانون الانتخابي… الخ، وبالرغم من أن هذه العوامل صحيحة وموجودة، لكنها لا تفسّر السبب الحقيقي وراء امتناع الجماهير المشاركة منها والمقاطعة ــ عن التصويت لهم.
وقبل الخوض فيما تعنيه الانتخابات لنا نحن الشيوعيون، وما نريد تحقيقه من ورائها، وما هي مسؤوليتنا تجاه هذا التيار والرد على إحباطاته، يجب التأكيد على أن هذا الإحباط، إلى جانب غياب رؤية واضحة وخط سياسي وبرنامج فعلي، سيعقّد عملنا الاجتماعي بين الجماهير، ويجعل من الصعب ترسيخ أفقنا التحرري في المجتمع.
وفي الوقت نفسه، سيقوّي الجماعات والأحزاب التي تصدّرت نتائج الانتخابات، والتي ستسعى إلى فبركة صورة تقول إن المجتمع العراقي بغالبيته لا يريد التيار التحرري والعلماني والشيوعي.
وسيعمل هؤلاء على التطبيل في كل اتجاه بأن انتفاضة تشرين لم تحقق شيئًا، وأن مئات الشباب وآلاف الجرحى الذين قدّموا حياتهم من أجل مستقبل أفضل للمجتمع لا يمتلكون أي حقّانية، وأن تضحياتهم ذهبت سدى. إنهم سيحتفلون بدفن ذكرى انتفاضة تشرين ومطالبها العادلة- سنتحدث لاحقًا عن الذين صعدوا على أكتاف انتفاضة تشرين-.
تحليل الأرقام – اللوحة الانتخابية:
لنفصّل في اللوحة الانتخابية؛ فبحسب بيان المفوضية، بلغت نسبة المشاركة 56.5%، وهي نسبة يشكّك فيها عدد غير قليل من المراقبين. ان المفوضية نفسها صرّحت بعد الساعة 12 ظهرًا يوم الاقتراع عندما كانت نسبة التصويت تقترب من 23% بأنها تتوقّع أن تصل نسبة المشاركة إلى 37.5%. فكيف قفز الرقم من أقل من 25% خلال النصف المتبقي من النهار إلى النسبة المعلنة؟ لا أحد يعرف. وفضلا على ذلك كانت التقارير تتوافد من مراسلي الفضائيات ومن مراقبينا وتنظيماتنا في عموم العراق بأن المراكز الانتخابية لم تشهد ذلك الزخم بعد ساعات الظهيرة.
وليست هذه المرة الأولى التي تعلن فيها المفوضية عن نسب مشاركة غير واقعية؛ ففي انتخابات 2018 قيل إن نسبة المشاركة تجاوزت 40%، بينما كانت الأرقام الحقيقية أقل من 18%. والأمر نفسه تكرّر في انتخابات 2021 وانتخابات مجالس المحافظات في 2023. ويجدر بالذكر أن بعثة الأمم المتحدة كانت دائمًا تشيد بنتائج الانتخابات، مما يجعل شهادتها “مجروحة” تجاه المفوضية.
على العموم، إذا أخذنا نسبة 56.5% التي أعلنتها المفوضية وبدأنا بتحليلها، فإن استثناء مدن كردستان -التي لم يكون لدى التيار المدني أي مرشحين-، يجعل نسب المشاركة في مدن الوسط والجنوب بحدود 45%، أي أن نسبة 55% قد قاطعت الانتخابات. وإذا طرحنا مليون ناخب يُقال إنهم من جمهور التيار الصدري الذي قاطع الانتخابات — مع العلم أن هذا الرقم مبالغ فيه، لأن عدد مصوّتي التيار في انتخابات 2021 لم يصل إلى 900 ألف — تصبح نسبة المقاطعة بحدود 50%.
وهنا ندخل إلى عامل المال السياسي الذي أُنفق في هذه الانتخابات بأضعاف ما أُنفق في السابق، حتى بات الأعلى في العالم متفوقًا على الإنفاق الانتخابي في الولايات المتحدة. ويُطرح هنا تساؤل جوهري: من أين أتت هذه الأموال؟ وكيف ضُخّت؟ ويجب فتح تحقيقات واسعة حول مصادرها. فمن خلال هذا المال جرى شراء ذمم شيوخ العشائر في الأرياف، أي أننا أمام انتخابات ريف على حساب المدينة. إن المجتمع الحضري والمدني بغالبيته العظمى قاطع الانتخابات ولم يشارك فيها. وبالطبع نستثني التصويت الخاص من الأجهزة الأمنية والجيش والحشد الشعبي التي هي مقسمة على الأحزاب والمليشيات المتنفذة في العملية السياسية، الذي بلغ نحو مليون صوت، وجاء لصالح القوى الإسلامية التي حصدت حصة الأسد في الانتخابات إلى جانب أصوات النازحين التي تقاسمها القوى المصنفة بالسنية.
أي إن نسبة المقاطعة، مقارنة بانتخابات 2018 و2021، بقيت أقل بقليل، وهذا يكشف أن الغالبية العظمى من جماهير العراق فقدت الثقة بالعملية السياسية وبالجماعات الطائفية والقومية. وقد توقّعنا هذا مسبقًا، وصرّحنا يوم الانتخابات على احدى الفضائيات، بأن نسبة المشاركة ستكون أعلى بقليل من الانتخابات السابقة.
وتكشف هذه النسبة عن مسألتين متناقضتين، الأولى أن الغالبية العظمى لم تنجرّ إلى المستنقع الطائفي رغم الشعارات الطائفية، والثانية عدم وجود بديل قادر على انتزاع ثقة الجماهير. ومن هذه اللوحة يجب أن ننطلق في تقييمنا؛ فالمال السياسي لم يستطع شراء ما يقارب 50% من الجماهير، فضلًا عن أن أكثر من 10 ملايين ناخب لم يحدّثوا بطاقاتهم الانتخابية.
ماذا يعني البرلمان بالنسبة لنا؟
بالتأكيد إن الفوز مهم بالنسبة لنا، ولا أقصد للحزب الشيوعي العمالي فقط، بل لعموم حركتنا. ويكشف عن الاعتبار والنفوذ الاجتماعي لحركتنا داخل المجتمع كما يعلمنا أنجلز. ودخول العملية الانتخابية هو تجربة تضع الحركة التحررية والثورية، بكل أقسامها، على المحك. ومع ذلك يبقى البرلمان منبرًا والدخول في الانتخابات تكتيك سياسي وليس أكثر من ذلك كما اشرنا.
إن الوصول إلى البرلمان يعني إيصال صوت الطبقة العاملة، وصوت النساء، والأحرار ليس إلى المجتمع في الداخل فحسب، بل إلى العالم كله. إنه صوت لفضح المؤامرات التي تُحاك تحت الطاولات لتمرير القوانين المناهضة لمصالح الغالبية العظمى من جماهير العراق. ومن الوهم التصور أن الوصول إلى البرلمان يمكن أن يُحدث تغييرات عظيمة في حياة المجتمع لاي طرف سياسي جدي يمثل تلك الاصوات؛ فحتى من يمتلك الأغلبية لن يستطع تشكيل حكومة في ظل البنية السياسية للطبقة الحاكمة التي أرستها.
ومع ذلك، يمكن أن تتغير الأمور وتحدث تحولات سياسية عميقة في المجتمع، بحيث تتحول الكتلة الصامتة التي لا تشارك في الانتخابات إلى كتلة تمتلك أملاً بالتغيير عبر ممثليها الحقيقيين وتتحول الجماهير الى جزء من المعادلة السياسية بدل من الانتظار خارج الحلبة السياسية. إن التغيير في البرلمان يأتي وفقط يأتي عبر قوة جماهيرية عظيمة خارج البرلمان تلتف حول ممثليها الحقيقين في البرلمان. إن هذا التناغم يمكن أن يحدث التغيير وقلب المعادلة السياسية.
الصعود على أكتاف انتفاضة تشرين–أكتوبر
ومن هنا يجب تقييم أداء من صعدوا على أكتاف انتفاضة تشرين، أولئك الذين عاقبتهم الجماهير بعد أن افتضح أمرهم، بعدما دُقَّت لهم الطبول الإعلامية باعتبار صعودهم بداية “عصر التيار الليبرالي في العراق” وبزوغ فجر الديمقراطية، وامتدادًا لأمجاد أسلافهم مثل جعفر أبو التمن، محمد حديد، كامل الجادرجي، وغيرهم. وقد بلغ عددهم ٤٠ نائبًا ممّن وصفوا أنفسهم بـ“المستقلين”، وشكّل بعضهم ما سُمّي بـ“الكتلة الشعبية”.
لقد عاقبت جماهير تشرين هؤلاء، ووجّهت لهم درسًا لا يُنسى وذلك بعدم إعادة انتخابهم. وأكثرهم صخبًا بوصوله إلى البرلمان كان مجرد صدى لأصوات قومية، وحوّل برنامجه بالكامل إلى شعار “معاداة إيران”، وكأن استبدالها بالولايات المتحدة سيحوّل الحياة في العراق إلى حياة وردية.
ونحن لم نتوهّم بهذه الجماعات قيد أنملة؛ فقد كتبنا عنهم في مناسبات مختلفة خلال أيام الانتفاضة، وعشية الانتخابات، وبعد انتخابات ٢٠٢١. وقلنا آنذاك إنهم سيعودون إلى أصولهم الطبيعية داخل القوائم الإسلامية والقومية التي دعمتهم من خلف الكواليس. (انظر مقالنا: مكانة الليبرالية والديمقراطية في العراق، المنشور في مواقع الحزب الرسمية، وفي جريدة الوطن السعودية، 29 نوفمبر 2021 وفي ميدل ايست اونلاين.
نعم، لقد أسهموا في تعميق فقدان الثقة لدى الجماهير. ومن هنا، فإن المهمة الرئيسية الملقاة على عاتقنا اليوم تكمن في توضيح هذه اللوحة أمام مَنْ يحسبون أنفسهم ضمن اليسار والقوى العلمانية التحررية والثورية، وبيان أن الإحباط الذي ينتابهم ليس إحباطًا واقعيًا، بل ناتج عن قراءة خاطئة لموقع هذا التيار وعلاقته بالجماهير، وفي الوقت نفسه عن قراءة غير طبقية للبرلمان ومسار التغيير الاجتماعي والسياسي.
غياب البرنامج الانتخابي والتفكير النخبوي:
إن أبرز ما ظهر في هذه الانتخابات تحديدًا هو غياب برنامج انتخابي واضح لدى جميع القوائم والكتل السياسية، بما فيها من يُصنَّف ضمن التيار المدني. فهذا التيار يجمعه فقط شعار “المدني”، من دون وجود انسجام فعلي لجميع الاطراف في برنامجه السياسي، في حين أن المدنية بذاتها لا تعني شيئًا لأكثر من 12 مليون عاطل عن العمل، ولا تجيب على قوانين قمع الحريات الفكرية والسياسية، ولا على القمع المتزايد للتظاهرات السلمية في فترة حكومة السوداني، ولا على سنّ القوانين المعادية للنساء، أو محاولات وصم هوية الدولة بالطائفية.
وبالتأكيد، هناك أطراف داخل ما يُسمّى بالتيار المدني تتوافق مع برنامجنا في نقاط عديدة، مثل: تشريع قانون عمل تقدّمي وإنساني، والضمان الاجتماعي، والحريات النقابية، وفصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم، والمساواة التامة بين المرأة والرجل، والتعليم المجاني لجميع المراحل الدراسية، ومحاربة الفساد… إلخ.
وقد تضمّن برنامجنا الانتخابي هذه البنود، وطرحناه على تلك القوى، ولكن — للأسف — لم تتعامل معه بجدّية، ولم تحاول جعله أساسًا لبرنامج انتخابي يمكن الترويج له، وتعبئة قواها الجماهيرية حوله، بل ظل في إطار المجاملة والموافقة الكلامية فقط.
في المقابل اكتفت هذه الأطراف بشعار “التيار المدني” و“الدولة المدنية”، وهو شعار تحوّل مع الوقت إلى شعار نخبوي، لا يمتّ بصلة — لا من قريب ولا من بعيد — للحياة المعيشية والخدمية والاجتماعية للذين قاطعوا الانتخابات. فوق ذلك، هو شعار غير جريء، أقرب إلى شعار مجامل خشية أن ينفر منه الناخب، وقد حلّ بشكل ضبابيّ محلّ العلمانية التي يحتاجها المجتمع الآن أكثر من أي وقت مضى، لسحب البساط من تحت أقدام الطائفيين الذين يضعون الجماهير دائمًا في حالة خوف ورعب مستمرَّين عبر تصعيد الاحتقان الطائفي لقلب التوازنات السياسية، كما ظهر جليًّا في الشعارات الانتخابية المطروحة.
لقد كانت “المدنية” التي جرى التنظير لها عشيّة وخلال تحالف الحزب الشيوعي العراقي مع التيار الصدري، الذي سُمّي آنذاك بـ”سائرون” — انظر: الحركات الاحتجاجية بين الدولة المدنية والدولة العلمانية –مجلة المَدّ العدد 7 — مجرد شعار بلا مضمون سياسي واقعي. فلم يُقدَّم أي برنامج انتخابي أو سياسي سوى الشعارات العامة حول “محاربة الفساد” و”إنهاء المحاصصة”، وهي شعارات رفعها أيضًا المالكي في مرحلة ما، وكذلك الحلبوسي وغيرهم.
بل إن أصحاب هذا التنظير اختزلوا الخراب والانحطاط السياسي والثقافي والخدماتي والاجتماعي في العراق بـ”المحاصصة”، وكأنها أصل كل الشرور، متناسين أن المحاصصة شكل من أشكال السلطة البرجوازية في ظروف سياسية معيّنة، تُفرض على الطبقة البرجوازية الحاكمة — انظر: مقال «المحاصصة عنوان لتضليل المجتمع» على موقع الحزب صحيفة (الى الامام) ومواقع وصحف اخرى.
وأخيرًا، فإن وجود التزوير من عدمه، ووجود المال السياسي من عدمه، لا يفسّر أبدًا انعزال الجماهير عن صنع قرارها السياسي. المعضلة الرئيسية ليست في قوة الجماعات الإسلامية بكل أطيافها، فهذه القوة لا تعود إلى وجود قاعدة اجتماعية عريضة لها كما يدّعون و يزمجرون ويحتفلون بنتائج الانتخابات، بل تعود بالأساس إلى ضعف التيار الشيوعي وعموم اليسار العمالي، واليسار الذي يدافع عن العمال والنساء والشباب. هذا الضعف ينعكس بوضوح على الجماهير.
إن المهمة الحقيقية هي كيفية تحويل الشيوعية وكل القوى التحررية والثورية في المجتمع إلى خيار واقعي من خيارات المجتمع ــ ليست فقط لأجل الانتخابات، التي هي تكتيك سياسي تنظّمه البرجوازية بين فترة وأخرى لإعادة إنتاج نفسها وممثليها السياسيين، وعلينا الاستفادة منه ــ بل من أجل انتزاع المطالب العادلة للطبقة العاملة وعموم الجماهير الكادحة.
إن تنظيم الجماهير بأشكال مختلفة في المصانع، وفي محلات المعيشة، وفي الجامعات، ووضع الخيار الشيوعي وخيار الحرية والمساواة أمام الجماهير، هو ما سيُمكّن حركتنا بكل تياراتها التحررية من لعب دور في إيجاد معادلة سياسية جديدة تكون لصالح الجماهير التي قاطعت أغلبيتها الانتخابات. وعندئذ، وفقط عندئذ، عندما تحدث تحولات كبيرة في المجتمع، سيكون لهذه الحركة حظوظ حقيقية في فرض آفاقها على المجتمع.



