المقالات

الشيوعية العمالية والشيوعية البرجوازية من برنامج الحزب الشيوعي العمالي العراقي ( عالم أفضل)

تمتعت الماركسية والشيوعية في الجزء الأكبر من القرن العشرين بمكانة عظمى بين مختلف الحركات الاحتجاجية و الإصلاحية في العالم الرأسمالي. أن الشمولية وعمق الأفكار الانتقادية لماركس والسمة الإنسانية والمساواتية العميقة للماركسية من جهة، والنفوذ العملي للحركة الشيوعية العمالية، وبالأخص تزامنه مع ثورة ١٩١٧ العمالية في روسيا التي حولت الشيوعية إلى مبعث أمل لمئات الملايين من العمال والكادحين في سائر أنحاء العالم من جهة أخرى، أدت إلى أن تطلق العديد من الحركات اللاعمالية وحتى اللااشتراكية طوال القرن العشرين اسم الشيوعية والماركسية على نفسها. اغلب تلك الحركات لم تكن تجمعها سمات مشتركة ما مع الأهداف الأساسية للشيوعية والماركسية، وكانت في آخر المطاف تطالب بأجراء إصلاحات أو تعديلات في نطاق النظام الرأسمالي ذاته.

كانت الشيوعية اسمـاً أطلقته الحركة الاشتراكية العمالية في القرن التاسع عشر على نفسها لتميز به نفسها عن الاشتراكية اللاثورية و أحيانا حتى الرجعية للطبقات الأخرى. أما في القرن العشرين، كان ذلك هو نفس اسم الشيوعية الذي تعرض للتشويه من قبل الحركات والطبقات الأخرى وفقد عمليا معناه الذي كان يميزه. لقد برزت تحت الاسم العام للشيوعية، تيارات ونزعات اجتماعية متنوعة لم تكن تجمعها لا في الرؤية و البرنامج ولا في منشأها الاجتماعي والطبقي أيةُ صلة بالشيوعية العمالية والماركسية. تحولت بعض فروع تلك الشيوعية اللاعمالية، وفي مقدمتها جميعاً الشيوعية البرجوازية للقطب السوفيتي، بشكل عملي إلى قواعد أصلية ورسمية للشيوعية خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين دافعة الشيوعية العمالية إلى الهامش والعزلة.

تشكلت أهم تيارات الشيوعية البرجوازية في القرن العشرين مع تغير مسار الثورة العمالية في روسيا ومن ثم سقوطها. استطاعت الحركة الشيوعية العمالية بقيادة الحزب البلشفي أثناء ثورة أكتوبر ١٩١٧، دكَ سلطة دولة الطبقات الحاكمة، وإقامة الحكومة العمالية بل وحتى إفشال المحاولات العسكرية المباشرة للرجعية المقهورة من اجل إعادة سلطتها. إلا أنه على الرغم من هذا الانتصار السياسي، فأن الطبقة العاملة الروسية عجزت في النهاية عن قلب أساس العلاقات الإنتاجية في روسيا، أي إلغاء نظام العمل المأجور و جعل وسائل الإنتاج اشتراكية. وفي النصف الثاني من العشرينات، في خضم الضغط الاقتصادي الشديد الذي تلى الحرب والثورة، وفي ظل انعدام أفق واضح للتحول الاشتراكي للعلاقات الاقتصادية، هيمنت الرؤية القومية على السياسة والنهج الاقتصادي للحزب وحركة الطبقة العاملة الروسية. أن ما جرى في مرحلة ستالين لم يكن البناء الاشتراكي، بل إعادة بناء الاقتصاد القومي الرأسمالي في روسيا على أساس نموذج رأسمالية الدولة المدارة. بدلاًمن هدف الملكية الجماعية والاشتراكية، حلت ملكية الدولة على وسائل الإنتاج. تم الإبقاء على الأجور والنقود ونظام العمل المأجور. إن فشل الطبقة العاملة الروسية في أحداث ثورة في العلاقات الاقتصادية، أدى إلى فشل الثورة العمالية بشكل عام. فقدت الطبقة العاملة السلطة السياسية. وبدلا من الحكومة العمالية، ظهرت دولة برجوازية جديدة، مع بيروقراطية وجهاز عسكري ضخم، مستندة على اقتصاد رأسمالية الدولة في روسيا.

أصبح نمط الدولة هذا نموذجاً اقتصاديا للقطب المسمى بالشيوعي الذي ظهر على الصعيد العالمي متزامنا مع تشويه ثورة أكتوبر العمالية. أن الدولانية الاقتصادية والأقدام على إحلال البرمجة والتصميمات الا داريه محل آليات السوق، ومستوى معين من تعديل الثروة وتأمين الحد الأدنى من الخدمات الرفاهية والضمانات الاجتماعية لعامة الناس، كانت تشكل جل مضمون ما يسمى بالاشتراكية للشيوعية البرجوازية في الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية.

إلا أن الاتحاد السوفياتي لم يكن المصدر الوحيد لظهور الشيوعية البرجوازية في هذا القرن. ظهرت في أوربا الغربية فروع من الشيوعية اللاعمالية التي قامت وضمن حفظ قواعدها المشتركة الأساسية مع الرؤية الاقتصادية لشيوعية الكتلة الشرقية، أي إحلال الدولانية الاقتصادية محل الاشتراكية والحفاظ على نظام العمل المأجور، بنقد تجربة الاتحاد السوفياتي من منطلقات الديمقراطية، القومية، الإنسانية والعصرية وبالابتعاد عن هذه الكتلة. كانت الماركسية الغربية والأوروشيوعية واليسار الجديد والفروع المختلفة للتروتسكية من التيارات البارزة للشيوعية اللاعمالية في أوربا الغربية. في الدول المتخلفة والمستعمرات السابقة تحولت القومية والميول البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المعادية للاستعمار والى حدما الحركات الداعية إلى الإصلاح الزراعي والحركات الفلاحية إلى قاعدة لنوع جديد من الشيوعية ” العالمثالثية “. كان الاستقلال الاقتصادي، التصنيع، والنمو السريع للاقتصاد القومي على أساس نمط دولاني و مبرمج، والخروج من السلطة السياسية العلنية للقوى الإمبريالية و حتى أحياناً أحياء التقاليد والموروث الثقافي المحلي القديم في المواجهة مع العصرانية والثقافة الغربية، يشكل محتوى ذلك الشكل من الشيوعية. كان النموذج البارز لشيوعية العالم الثالث يتجسد في الماوية والشيوعية الصينية التي تركت أثاراً عميقة على رؤية وسياسة التيارات المسماة بالشيوعية في الدول المتخلفة.

إن حصيلة ظهور التيارات المختلفة للشيوعية اللاعمالية في القرن العشرين كان الانعزال والتراجع الملموس للشيوعية العمالية والماركسية. أولاً، تمت إعادة نظر وسوء تفسير بنيويان للأهداف الأساسية للاشتراكية العمالية والجوانب المختلفة للنظرية الماركسية كي تتلاءم مع المضمون اللااشتراكي واللاعمالي لتلك الحركات وتم تعريف تلك التحريفات بشكل واسع في العالم بوصفها هي الماركسية والشيوعية. ثانياً، أنتقل مركز الثقل الاجتماعي _ الطبقي لشيوعية القرن العشرين من الطبقة العاملة إلى مجموعة واسعة من الفئات اللاعمالية. تحول المثقفون، الطلبة وطلاب الجامعات والفئات الإصلاحية للطبقة البرجوازية ذاتها في أوربا الغربية والبلدان الصناعية المتقدمة إلى المحيط الأصلي لنشوء وبروز التيارات الشيوعية. وفي الدول المتخلفة بالإضافة إلى هؤلاء، شكل الفلاحون الفقراء، البرجوازية الصغيرة المستاءة وفي مقدمتهم البرجوازية القومية، المتطلعة نحو التصنيع والتواقة لنمو الاقتصاد القومي، القاعدة الاجتماعية للشيوعية اللاعمالية.

وفي غياب تقليد شيوعي عمالي ذي نفوذ، تأخرت الطبقة العاملة عمليا من إبراز تواجدها السياسي المستقل والقوي لعشرات السنين في شتى بقاع العالم.وفي أوربا الغربية وأمريكا والى حد ما في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، بقى العمال بشكل أساسي ولفترة طويلة تحت سيطرة الحركة النقابية وأحزاب الجناح اليساري للطبقة الحاكمة نفسها، بالأخص الاشتراكية الديمقراطية، إلى الحد الذي اعتبرت هذه التيارات لدى عامة الناس، وحتى في أنظار قطاعات واسعة من العمال أنفسهم كإطار وميدان طبيعي وبديهي للحركة العمالية. في الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية ومقابل الامتيازات الجزئية التي تم منحها للعمال في محيط العمل، تم فرض الانعدام التام للحقوق السياسية والانفراد الواسع على الصعيد الاجتماعي على الطبقة العاملة. وفي الجزء الأكبر من الدول الأكثر تخلفا، حتى تأسيس الأحزاب والجمعيات العمالية بذاتها، ظل من الآمال المكبوتة.

وصلت الفروع الأساسية للشيوعية البرجوازية خلال العقود القليلة الأخيرة إلى الطريق المسدود واحدة تلو الأخرى. وكانت محطتها الأخيرة الانهيار المذهل للاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية في نهاية عقد الثمانينات وبداية التسعينات والتي أطلق عليها ناطقو البرجوازية بزهو الظافرين لقب ” نهاية الشيوعية “.

على الرغم من الأجواء المعادية للشيوعية التي سادت في السنين الأولى للتسعينات والدعاية البرجوازية التي تصم الآذان حول عصر ” سقوط الشيوعية ” وبالرغم من الشقاء الهائل الذي أوقع بمئات الملايين من الناس في شتى أنحاء العالم عقب سقوط الكتلة الشرقية، فان المجرى الحاضر للأوضاع يدل على انفتاح الأجواء مجدداً لظهور الشيوعية العمالية مرة أخرى في قلب المسرح السياسي وخاصة في الدول الصناعية المتقدمة. أن إحدى الشروط الأساسية لذلك، هي المواجهة الفكرية والسياسية الجادة مع مختلف فروع الشيوعية البرجوازية التي ستبرز مرة أخرى، وبأشكال متنوعة، مع تقدم حركة الطبقة العاملة وتزايد نفوذ الماركسية والشيوعية العمالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى