تتزايد حملات الاستهجان لمحاولات الأمم المتحدة التسويق للتسوية مع الانقلاب العسكري في السودان، والتي تأتي ضد خيارات الشارع الرافض للانقلاب. وظهرت تلك المحاولات الأممية في الأيام الماضية من خلال تصريحات صحافية للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، دعا فيها الشعب السوداني إلى القبول بالاتفاق الذي أبرمه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مع الجيش لضمان انتقال ديمقراطي حقيقي في السودان. وعدّ غوتيريس إطلاق سراح حمدوك وإعادته إلى منصبه نصراً مهماً، محذّراً بشكل أو بآخر من استمرار التظاهر والتشكيك في اتفاق رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان وحمدوك، لما يشكله، حسب تقديره، من خطر على البلاد. واتخذت أفكار غوتيريس شكلاً عملياً وواقعياً عبر تحركات مبعوثه الخاص في السودان، رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان، الألماني فولكر بيرتس، وذلك عبر سعيه لإقناع تحالف “الحرية والتغيير” باللحاق باتفاق البرهان ـ حمدوك، ودعوته لجان المقاومة السودانية، التي تقود الحراك المناهض للانقلاب، إلى اجتماع معه، في مسعى لتشجيعها على دعم حمدوك وإنجاح اتفاقه مع البرهان.
وللسودان تاريخ طويل مع الأمم المتحدة، خصوصاً في العقود الأخيرة، عبر مراقبة الأوضاع والإشراف على عمليات حفظ السلام. ففي 2005 أنشئت بعثة حفظ السلام في السودان “يونميس” لمراقبة تنفيذ اتفاق السلام الشامل بين الشمال والجنوب، الذي انتهى في عام 2011 بانفصال الجنوب. كما أنشئت في عام 2007 بعثة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في إقليم دارفور، لحماية المدنيين أثناء الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الإقليم، وأنهت البعثة مهمتها هذا العام. وتمّ إنشاء بعثة أممية ثالثة في عام 2011 في منطقة أبيي، المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان، قوامها الأساسي قوات إثيوبية.
اعتبر تجمع المهنيين السودانيين تصريحات غوتيريس
بأنها تجاوز لإرادة الشارع
ولم تحظَ دعوات الأمم المتحدة للتسويق لاتفاق 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بين البرهان وحمدوك، بالترحيب من القوى السياسية المناهضة للانقلاب، ومن لجان المقاومة. ففي تغريدة له على موقع “تويتر”، قال خالد عمر يوسف، وزير شؤون مجلس الوزراء السابق في حكومة حمدوك، القيادي في حزب المؤتمر السوداني، إن تصريح غوتيريس الداعي إلى القبول باتفاق البرهان ـ حمدوك لا يساعد على ترجيح خيار الانتقال الديمقراطي في السودان، وأن ما جاء في الاتفاق هو ذات بيان الانقلاب من دون تعديل. وأكد يوسف أن الخيار الشرعي هو مطالب الشعب المتمثلة في إسقاط الانقلاب وتحقيق التحول المدني الديمقراطي.
أما تجمع المهنيين السودانيين، فقد اعتبر، في بيان له، تصريحات غوتيريس، تجاوزاً منه لإرادة الشارع السوداني الرافض للاتفاق وما سبقه، كما أنه يملي على السودانيين ما يجب أن يفعلوه من موقع وصاية ليس لديه ما يؤهله له. وأضاف التجمع، أن ترداد غوتيريس “تهديدات الانقلابيين للشعب بعواقب وخيمة إن استمر في مقاومتهم واتفاقهم البائس مع حمدوك، هو سقطة أخلاقية وسياسية، بل كان حرياً بالأمين العام للمنظمة الدولية أن لا يقع فيها، كونها تبريرا لعنف الانقلابيين الموجه ضد حق الشعب في التعبير السلمي عن تطلعاته”.
من جهته، يشير المتحدث باسم تجمع المهنيين، مهند مصطفى، في حديثٍ مع “العربي الجديد”، إلى أن تصريحات الأمين العام للمنظمة الدولية تجافي مبادئ المنظمة نفسها المتمثلة في الديمقراطية وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الإنسان، وكلها انتهكت بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ويشدّد على أن الانقلاب انتهك حق السودانيين في الحياة وحقهم في التعبير والتجمع، وقتل أكثر من 40 سودانياً، وأصاب مئات الجرحى، واعتقل العديد أثناء المواكب السلمية المناهضة للانقلاب. وينوّه إلى أن تصريح غوتيريس لا يحترم إرادة الشعب السوداني، ويتخذ لغة تهديدية أشبه بلغة الانقلابيين أنفسهم، مؤكداً أن السودانيين لن يرضوا بمحاولة فرض إرادة من الأمم المتحدة.
ولا يستغرب مصطفى تحركات المبعوث الأممي في السودان التي تأتي تحت عباءة الأمين العام، وتتنافى مع المهام الرئيسة لبعثة الأمم المتحدة التي يرأسها، إذ يجتهد بيرتس في فرض اتفاق التسوية بين البرهان وحمدوك رغم رفض الشارع. ويبدي مصطفى استنكاره للاعتقاد السائد لدى الأمم المتحدة بأن حمدوك يحتكر تمثيل الشعب السوداني، وهو أمر غير صحيح، خصوصاً بعد انضمام حمدوك للانقلاب. ويدعو الأمم المتحدة إلى الالتزام بدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، من دون دعم مرتكبي الجرائم في حق السودانيين، وأن تقوم بما يكفي لحماية التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان.
وكان المنسق الوطني السابق لبعثة الأمم المتحدة في السودان، السفير عمر الشيخ، قد وجّه رسالة لبيرتس، وجدت انتشاراً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، نبّهه فيها إلى الخطأ السياسي لتصريحات غوتيريس التي تقوّض، على حد تقديره، قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2524 الصادر بالإجماع في يونيو/حزيران 2020. وهو القرار الخاص بدعم الانتقال في السودان، وحدد بوضوح مهمة الأمم المتحدة بالمساعدة في حدوث تحول سياسي مدني، وتحقيق أهداف الإعلان الدستوري التي مزقها الآن قادة الانقلاب، وصياغة مسودة دستور ديمقراطي جديد. وأشار السفير إلى أن دعم الأمين العام للأمم المتحدة لاتفاقية البرهان ـ حمدوك، ينتهك جميع أهداف قرار مجلس الأمن الدولي، ويتعارض مع إرادة السودانيين بملايينهم كما عكستها وسائل الإعلام الدولية والرافضة بشكل قطعي لتلك الاتفاقية. كذلك تبنّى ناشطون سياسيون، قيادة حملة مناهضة لتوجهات الأمم المتحدة، وبرزت اقتراحات عدة بتنظيم مليونية أمام مقر البعثة الأممية في الخرطوم لتسليم مذكرة في هذا الصدد.
رفضت لجان المقاومة أي شراكة
مع العسكر
أما لجنة المقاومة التي وصلتها دعوة بيرتس، فقد رفضت من حيث المبدأ مقابلته، وأصدرت بياناً أشارت فيه إلى أنها فضّلت الرد كتابة لتوضيح مواقفها التي أوجزتها في الإصرار على إسقاط الانقلاب، وحل المليشيات ومحاكمة الانقلابيين، وتشكيل سلطة مدنية كاملة، وعدم الدخول في أي تفاوض أو مساومة أو شراكة مع العسكر. وحثت الرسالة، المجتمع الدولي، على التضامن مع نضالات الشعب السوداني الطامح للحرية والسلام والعدالة والذي لن يتحقق إلا عبر هزيمة عسكرة الدولة.
وعلى الرغم من بيان الرفض، فإن بيرتس أعاد تأكيد رغبته في لقاء لجان المقاومة والاستماع لوجهات نظرها، مشيراً إلى أن تلك اللجان جزء أصيل من الحراك المتنوع الذي يعمل لضمان عملية انتقال ديمقراطي في السودان. وفي منحى لتخفيف الآثار السلبية لتصريحات غوتيريس، قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن مسار العملية الانتقالية لا يمكن تحديده إلا بمشاركة جميع شركاء الثورة في السودان.
من جهته، يساند السفير المتقاعد في وزارة الخارجية السودانية، الطريفي كرمنو، تصريحات غوتيريس، قائلاً إنها تتسم بقدر كبير من العقلانية وتتعامل بواقعية عقب ما حدث في 25 أكتوبر لضمان انتقال ديمقراطي، وقبل ذلك حقن دماء السودانيين وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويوضح في حديث مع “العربي الجديد” أن اللهجة العدوانية تجاه الأمين العام ومبعوثه من تحالف “الحرية والتغيير” وجهات أخرى، غير مبررة وهجوم ليس في محله، منوهاً إلى أن تلك المواقف تتسم بقدر كبير من عدم المرونة والتمرّس، وتتجاهل استغلال الفرص المتاحة التي تضع الأمم المتحدة نصب أعينها عليها وتركز فيها، وأهمها فرصة قيام انتخابات عامة قبل أقل من عام ونصف العام، التي يمكن للأحزاب الرافضة للتسوية بين حمدوك والبرهان استغلالها لفرض أجندتها عبر صناديق الاقتراع، واختبار التعهدات التي وردت في الاتفاق السياسي.