تعديل المادة 57، والتباكي الكاذب على “حقوق الاباء”!
في خطوة معادية أخرى للمرأة والطفولة في العراق، وُضِعَت على طاولة “مجلس اللانواب” مشروع تعديلات على المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية العراقية والمتعلق بحضانة الطفل. وأجرى المجلس قراءة اولية للتعديلات المقترحة. إن محور هذه التعديلات هو انتزاع الاب او عائلة الاب للطفل من احضان أمه المطلقة حين يبلغ السابعة من العمر أو اقل من هذا، إن تزوجت.
إن من يقف وراء طرح هذه الامر ومساعي تحشيد القوى من حوله هو معسكر الرجعية الإسلامية، العشائرية، الذكورية وإجمالاً كل القوى المعادية للمرأة والطفولة ولإنسانية الإنسان وكل القيم والمثل العصرية والمتمدنة. إنه معسكر كان ولازال له دور أساسي في كل الخراب والدمار الذي لحق بالمجتمع لما يقارب العقدين.
تأتي هذه الخطوة استغلالا لأوضاع يغط المجتمع فيها، في ألف مصيبة ومصيبة. من فقر، جوع، بطالة، انعدام حقوق وحريات، غياب الخدمات وانعدام الأمان، فساد ونهب، استهتار المليشيات والمافيات وتهديدها للمجتمع بالحروب وأعمال الجريمة المنظمة و….الخ. وثمة مؤشرات كثيرة يومية على مخاطر انزلاق المجتمع في حرب دامية سواء امتداداً للصراع الاقليمي او العالمي. إن بقاء المجتمع كمجتمع عادي ومتعارف عليه، هو تحت السؤال أكثر من أي وقت مضى. بيد إن كل ما تفكر به هذه القوى هو الدفع بأجندتها القرووسطية هذه. لا يهمها الرد على اي معضلة من المعاضل التي تمسك بخناق الطفل، الشاب، الخريج، المتقاعد، ذوي الاحتياجات الخاصة والمشردين و… ملايين البشر! إن هذه القوى التي لشدة معاداتها للإنسان لا يهمها أي شيء سوى الدفع بأجندتها السياسية والاجتماعية المقيتة، إغراق المجتمع بقيمها وتقاليدها وأفكارها الاسلامية-العشائرية البالية.
ادعاءات وتحريفات!
إن دعاة هذا المشروع وأبواقهم الاعلامية وخدمهم من محامين و”مثقفين” وغيرهم يحرّفون القضايا عن سوء نية وقصد. لقد تم إقرار مادة 57 الخاصة بـ”حضانة الأم للطفل” عام 1959، وإن اخر تعديل طرأ عليها يعود لعام 1986. وسار المجتمع، طوال تلك العقود المديدة، دون مشكلة تذكر بهذا الخصوص، كما لم تكن قضية تذكر في المجتمع. فما الذي جرى بحيث “يقيموا الدنيا ولا يقعدوها” اليوم حول “الحيف الواقع على الآباء” او حول كون المادة 57 هي “مؤامرة كي يعيش الطفل يتيم الاب”؟! لماذا نسمع الآن بمثل هذا الادعاءات؟!
هناك مشكلة واقعية نوعاً ما يعاني منها الاباء المطلقون. ولكنها لاتتمثل في موضوعة حضانة الأم، وانما في مكان آخر، المشاهدة (لقاء الأب بالطفل). نعم هناك عدم ارتياح كبير لدى الآباء بهذا الشأن. بيد ان هذا أمر آخر لا يتعلق بحضانة الأم او عمر انتزاع الطفل من أمه المطلقة. إذ إن المشاهدة تجري في أماكن غير مناسبة اطلاقاً (إبان النظام السابق، كانت تجري في مقرات الاتحاد العام لنساء العراق، واليوم في المحكمة او حتى في “كرفانات” لا تتوفر فيه أدنى الشروط اللازمة، وهي اجمالاً أماكن غير اجتماعية وغير مناسبة للطفل اطلاقاً ومبعث لضيق الاب دون شك). بيد إن هذه مسالة فنية، وإن حلّها أسهل من السهل. إذ يمكن إجراء تعديل بحيث يكون الطفل برفقة الأب يوم كامل في الاسبوع، في بيت الأب مثلا. أي عدم حرمان الطفل من جو اجتماعي عادي ومقبول. أي يترك الطفل بيت عزيز عليه ليوم (أمه)، ليزور بيت عزيز اخر عليه (أبيه).
بيد إن ما تسعى إليه تلك القوى الداعية للتعديل هو امر اخر؛ الا وهو انتزاع الطفل من الأم سواء في سن السابعة أو اقل من ذلك إن تزوجت. أي فرض عقوبة على المرأة المطلقة اذا تزوجت من رجل اخر!!! إن هذا نموذج صارخ على الأنانية المريضة والغرور الذكوري والدوس على كل مشاعر المرأة المطلقة وحقوقها في بدء حياة جديدة. وطالما لا تستطيع الأم الاستغناء عن طفلها، يصبح هذا التعديل “قفل عفة” جديد في عالم القرن 21!!!
يتحفوك بالقول كيف لنا ان نترك فتاة بعمر (14-15) عام مع “رجل غريب” (زوج الأم)!! إن هذه الحجة تعكس قيمهم واخلاقياتهم المريضة التي لا ترى في المرأة سوى “وعاء جنسي” وإن الرجال “وحوش جنسية”! أو يتحدثون عن “كيف نضمن حسن تعامل زوجها الجديد مع الاطفال”، يمكن اعادة هذا السؤال نحو أصحابه،، أي كيف تضمنوا حسن معاملة الزوجة الجديدة للاب للمحضون؟! فيما هم يعرفون جيداً إنه وفق القانون العراقي يشترط زواج المرأة بحسن تعامل زوجها (الثاني) مع طفلها “المحضون”! ويحق للمرأة طلب التفريق في حالة سوء معاملة الزوج مع “المحضون”.
ان العشائريين القادمون من جحور المجتمع من اجل السلطة والمكانة والثروة يتساءلون عن “ان المجتمع عشائري، وكيف للابن ان ينقطع عن أعمامه؟!”. على الابن ان لا ينقطع عن اي علاقات قربى او غيرها جراء انفصال الاب والام لأنها قطع لعلاقات طبيعية للطفل. وهذا غير مقبول. ولكن اذا تهمك عشيرتك، نحن يهمنا الطفل. لماذا تذهب الطفولة ضحية للعشيرة. الأصح التضحية بالقيم العشائرية البائدة من اجل الطفولة وفرح الطفولة والمستقبل والسعادة. العشائري هو منْ عليه أن يغير اولوياته وعقائده وافكاره، وليس الطفل.
يتشدقون بالقول: “طالما القانون وضعي، فيمكن تغييره”! كل قانون يمكن تغييره. أولاً، ليس ثمة قانون يمكن تسميته قانون خارج نطاق المجتمع والانسان. ولكن يجب ان تُغير القوانين لصالح الطفل بالدرجة الاولى. اذ يمكن تغيير وتعديل القوانين لصالح خلق أجواء إنسانية سليمة تحمي الطفل وتصون حق الام بالحضانة والاب بالمشاهدة حتى يبلغ الطفل سن 15 مثلاً. وإن أول السبل لخلق هذه الاجواء السليمة هو وضع مواد قانونية صارمة تجاه اي انتهاك من قبل اي طرف كان. على سبيل المثال، إن التحريض الذي يمارسه الوالدان على الطفل هو امر شائع في المجتمع، إن أي تحريض من قبل احدهم للطفل على الآخر، يجابه برد حازم ومحاسبة قانونية تصل لحد الحرمان من الحضانة!
هذا يعني إن كل الإشكاليات قابلة للحل. ولكن التعديل الذي ينشدوه هو: طالما تطلقت المرأة، تفقد حضانة الطفل، اي ان الحضانة مرتبطة ببقائها في كنف الرجل. تفقد الاخير، تفقد الطفل. لأن مهمتها في الحياة هي انها تعمل على السهر على راحة الرجل، تعد له الطعام، تنجب له الاطفال، تربيهم له. اي ان وجودها واطفالها مرهون بوجود الرجل وخدمة الرجل. وان تخلى عنها، تفقد رعاية الطفل الذي هو احد ممتلكات الاب. وان بقاء الطفل معها فقط الى ان يكبر (وحسب تفسيرات مراجعهم الدينية، يراه احدهم سنتين ارتباطاً بحاجة الطفل للرضاعة). أي ابقائه هذه السنوات ليس من اجل الأم، بل حتى “يعبر سن الرضاعة”!! اي دورها ان تربي الطفل له فقط. أثمة انانية اكثر من هذه؟! أ ثمة منطق منحط اكثر من هذا؟! أثمة وضاعة لمكانة المرأة اكثر من هذه؟!
قطع مسار طبيعي!
وجراء سيادة تيارات اسلامية وعشائرية على السلطة وتحكمها بالمجتمع، شهدت العقود الأخيرة تراجع جدي وكبير على وضعية المرأة على جميع الأصعدة، شهدنا الاستلاب المتعاظم لحقوقها، مقابل تمتع الرجال بمكاسب أوسع وأوسع في العلاقة ما بين الرجل والمرأة. أي ميل الميزان لصالح الرجل وصلاحياته وامتيازاته بحد رهيب. ولهذا، فان المرأة هي الطرف “الاضعف” و”الادنى” في العلاقة. طرف مُهمش وبمكانة دونية. وفي الغالبية العظمى، يكون قرار الطلاق بيد الرجل. وفي الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة التي يمر بها المجتمع اليوم والمرأة بالذات، تكون المرأة مجبرة على المزيد والمزيد من التنازلات. للأسف، يستطيع الرجل، وبسهولة، ان يتزوج عليها ثلاثة او أربع نساء أخريات، ان يتزوج “زواج متعة” بلا حساب، ان يهجرها ويبقيها معلقة لا متزوجة ولا مطلقة نكاية لسنين طوال، أن يُطلقها لأسباب تافهة. إن التعديل سيء الصيت هو مكافئة صريحة للرجل ونزعاته غير السليمة. هو من يُطلِّق، ويكافئه المقترح بانتزاع الطفل من احضان امه له.
إنهم يعرفون قبل غيرهم ان الطفل ملتصق بالأم. إن الأم اكثر دراية بكل شاردة وواردة بأمور طفلها. ان إحساس طفلها، شعوره، احتياجاته، أشيائه، رغباته وتحقيقها، ما يفرحه وما يحزنه، مدرسته و…كل شيء حتى النواحي العاطفية للطفل مرتبطة بصورة وثيقة ولا انفكاك عنها بالأم. كم يعطي الاب من وقته للطفل ولأمور الطفل اليومية التي ذكرتها؟! هل لدى الاب قطرة من التحمل الذي تتمتع به المرأة تجاه طفلها وتامين حاجيته؟!، اذ حتى من الناحية البيولوجية بهذا الخصوص الأم شيء والأب شيء اخر. ليكونوا منصفين ويردوا على هذا السؤال. على قول احدى الناشطات النسويات: على الأب ان يرتب فراش نومه اولاً، وليأتوا بعدها بالحديث عن حضانة الطفل!
كل انسان سوي يعلم ان مصلحة الطفل مع الأم، وان علاقة الام بالطفل هي علاقة خاصة جدا، الصلة الاقرب، ولا يمكن انتظار التكامل المعنوي والنمو السليم للطفل بدون هذه الصلة ووجودها. ان خطوة الرجعيين هؤلاء هي خطوة مناهضة لمسار البشرية، مخالفة للعلم. ان ما بلغته قوانين الدول المتقدمة بهذا الصدد ليس نابعاً من فراغ او أفكار على العموم، بل مبني على أساس العلم. انه كمثل تحديد 14 اسبوع من عمر الجنين كحد اقصى للإجهاض. اذ لا يمكن لاحد ينشد مجتمع انساني ان يحدد هذه الامور بناءً على هوائه او تقاليده او قيمه او افكاره الخاصة.
إنها قضيتنا جميعاً، رجالاً ونساء!
ولتوخي الدقة، ان مطلب الحضانة ليس مطلب الآباء. إنه سعي جماعات إسلامية وعشائرية متخلفة بهدف تعميق مناهضة المرأة والانسانية. ولهذا المسالة ليست ثنائية الام-الاب ولا ثنائية النساء-الرجال. انها ثنائيات كاذبة.
إن التعديل المزعوم هجمة تيارات وجماعات قرووسطية معينة تسعى للدوس على المكاسب التي حققها المجتمع في العراق نتيجة نضالات قوى التحرر والتقدم لعقود مديدة. انها هجمة كسائر الهجمات على المجتمع ككل برجاله ونسائه، على قيم الرقي والانسانية، على حقوق “فئاته الضعيفة”، المرأة والطفل ولا ربط لها اطلاقاً بحقوق “الآباء” والتباكي الكاذب عليها. يجب ان يُحبط هذا المسعى كسابقاته من قبل كل قوى التقدم والتحرر والانسانية والمدافعة عن الطفولة.