الابحاث والدراسات

دروس ثورة اكتوبر في الثورتين التونسية والمصرية

سمير عادل

نص الموضوع الذي قدمه سمير عادل في ندوة اقيمت في بغداد يوم ٧ تشرين الاول ٢٠١٨ بمناسبة الذكرى الاولى بعد المائة على ثورة اكتوبر الاشتراكية

مقدمة:

تمر علينا الذكرى الاولى بعد المائه على ثورة اكتوبر، وكان ومازالت عموم مدارس اليسار بمختلف تياراتها التي تتبنى المنهج الماركسي في رؤيتها وبغض النظر عن تمثيلها للتيار الشيوعي في صفوف الطبقة العاملة على صعيد الممارسة العملية والسياسية، يدرسونها من زاوية فشل تجربة الاتحاد السوفيتي او فشل التجربة الاشتراكية. وهنا لا اريد ان اخوض في هذا المضمار، فالشيوعية العمالية قد قدمت تحليلا مفصلا ومتكاملا عن تلك التجربة. وخلال السنوات المنصرمة كان نقد التجربة السوفيتية الذي قدمه القائد والمفكر الماركسي منصور حكمت هو ثمرة النضال الفكري للشيوعية العمالية وعلى ضوئه كتبت عشرات المقالات والابحاث والندوات تتناول تلك التجربة.

بيد اننا في هذه المناسبة وفي هذا العام، سنتطرق الى الدروس التي يمكن استنباطها من تجربة ثورة اكتوبر، كي نستطيع ان نقيم اكبر ثورتين في الالفية الثالثة هزتا العالم الرأسمالي لا على صعيد الشرق الاوسط فحسب بل على الصعيد العالمي. فاذا كانت ثورة اكتوبر ثم الثورة الايرانية في ١٩٧٩ كانت اهم الثورات في القرن الاخير من الالفية الثانية، حيث الشاخص المهم والكبير هو دور الطبقة العاملة التي انتصرت في روسيا واستلمت السلطة السياسية بينما قصمت ظهر نظام الشاه التابع للإمبريالية العالمية وحسمت مصيره في ايران، فأن الثورتين التونسية والمصرية لا تقل قيمتهما السياسية والاجتماعية في العقد الثاني من الالفية الجديدة التي نعيشها. نقول ان الشاخص المهم هو نزول الطبقة العاملة الصناعية المدينية الى الميدان. وفي مصر وتونس لعبت الطبقة العاملة دورا عظيما في اسقاط نظام زين العابدين بن علي ونظام مبارك.

 واذا كانت الثورة هٌزَمَتْ في مصر ووقفت في وسط الطريق في تونس، فأن ثورة اكتوبر تعلمنا لماذا هزمنا في مصر ولماذا لم نمض الى نهاية الطريق في تونس، استعدادا من جديد كشيوعيين ونستلهم من التجربتين المذكورتين العبر والدروس كي نؤثر في مسار الثورة الذي لن يتوقف.

التيارات البرجوازية وتصورهما لما حدث:

رؤيتان ما زالتا سائدتان وتغذيان بعضهما البعض عندما تقيمان اسباب اندلاع الثورتين التونسية والمصرية وعندما تستنج منهما اسباب انتكاستهما. الرؤية الاولى هي الرؤية القومية والثانية هي الرؤية المؤامراتية. اما الرؤية القومية فتحلل بأن الاسباب التي ادت الى ما سمي “بالربيع العربي” هو بسبب غياب الديمقراطية وفشل مشاريع التنمية العربية وتبعية الانظمة العربية للدول الغربية وعدم قدرتها الى طرح مشروع عربي موحد، وان الخلفيات التاريخية سواء على الصعيد الاجتماعي او السياسي لما حدث في الفضاء العربي اذا صحت هذه التسمية من الصراع حول القضية الفلسطينية والصراع بين التيارات الاسلامية ومع الناصرية والحروب مع اسرائيل والحرب الاهلية في لبنان والحرب العراقية الايرانية ثم احتلال الكويت وسقوط النظام البعثي وغزو العراق والحرب الاهلية الطائفية والانقسامات الطائفية في المنطقة بعد غزو العراق كلها وراء اسباب الانتفاضات العربية “راجع كتاب الانهيار المديد-حازم صاغية”. وتنتقد هذه الرؤية الانظمة القومية العربية من هذه الزوايا التي تشترك معها ايضا العديد من التيارات اليسارية وتظهر في التحليل الاخير وكأنها مجموعة تعمل كمستشارين سياسيين واقتصاديين للبرجوازية “انظر-الشعب يريد- جلبير الاشقر”. وهكذا ترفض الرؤية القومية تبعية الانظمة العربية الى الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الامريكية، وتعيد نفس الكره القديمة بالاستقلال والسيادة وتوسيع القاعدة الديمقراطية لتلك الانظمة “انظر – العدد ٦٣ سلسلة كتب المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية”.

اما الرؤية المؤامراتية، فتنطلق من ان هزيمة الثورتين وتداعياتها، انما تنبع للوهلة الاولى من المدافعين عن الانظمة التي انتفضت الجماهير ضدها، حيث صورت ان هناك محرك خارجي للجماهير، وان الجوع والاستبداد والفساد ليست هي العوامل وراء اندلاع شرارة الثورة في تونس وفي مصر واللتان هب بعدهما نسيمهما على بقية البلدان الناطقة باللغة العربية. وتصل تلك الرؤية من خلال هذا التحليل الى اسباب هزيمتها التي هي وراء اندلاعها. فعندما تهزم الثورات، فسوق الروايات المفبركة والدعايات الكاذبة حول قادتها والمشاركين فيها يزدهر ويصبح التنكيل بتاريخها واحداثها هو المهمة الجديدة التي تتكفل بها البرجوازية بعد ان نفذت بجلدها من براثن الثورات. او ليس عبد الفتاح السيسي الرئيس المصري قد شن حملة على ثورة يناير ووعد بعدم تكرارها عشية المهزلة المسرحية للانتخابات الرئاسية الاخيرة هذا العام. وهكذا الصقت صفة المؤامرة على الثورتين التونسية والمصرية ونيسمهما، وان الغرب قد حاك خيوطهما. 

اما الرؤية النقدية الماركسية فهي تغيب بشكل كلي، لان نقطة انطلاقها الصراع الطبقي ومستلزمات النضال الطبقي وطبيعة القوى المتصارعة في مسار الثورة. اي بعبارة اخرى ان الرؤية والتحليل السياسي لأسباب الثورة وهزيمتها من وجهة نظر الطبقة العاملة غائبة كليا. لذلك في تحليلنا لن نذهب الى اثبات صحة او بطلان تحليل التيارات البرجوازية حول تصورهما للثورتين التونسية والمصرية، من وجهة نظر طبقية هي رؤية الطبقة العاملة.

*****

ان قصة نجاح اي ثورة في العالم الرأسمالي المعاصر، لا تلعب العوامل المحلية وحدها دورا فيها بل ان العوامل الاقليمية والدولية تلعب دورا لا يقل اهمية عن العوامل المحلية.

صحيح ان الامبريالية العالمية لعبت دورا كبيرا في اجهاض الثورتين المصرية والتونسية والتصدي لتأثيرهما الذي هب على المنطقة، من خلال دعم احد التيارات البرجوازية المتمثلة بتيار الاسلام السياسي على الصعيد المالي والاعلامي والسياسي سواء في مصر او في تونس او من خلال تدخلها العسكري المباشر في ليبيا او من خلال تمويلها للجماعات الاسلامية الارهابية في سورية كي تقايض الجماهير: الامن مقابل البطالة وتشديد ظروف العمل والفقر والاستبداد، ولكن الصحيح ايضا ان سر نجاح خطط الامبريالية العالمية يكمن بغياب الصف المستقل للطبقة العاملة ومبادرتها العملية على الصعيد السياسي وكذلك امتلاكها التحليل السياسي للطبقات المتصارعة في المجتمعات ووضع تكتيكات محددة لعبور المسارات السياسية الذي يفرضه واقع الصراع الطبقي وخاصة خلال المرحلة الانتقالية او الفراغ السياسي الذي يسود في المجتمع.

 فالبرجوازية قدمت التنازلات تلو الاخرى امام الثورة مثلما حدث بعد اسقاط نظام مبارك او نظام زين العابدين بن علي، وتصدع تماسكها واصبحت مصدومة ومذهولة من وقع تقدم الثورة، بينما الجماهير الثائرة كانت تفتقر الى افق سياسي واضح وغير قادرة الرد على السؤال الذي يطرح في ايام الثورات دوما هو، هل الانتظار كي تعود البرجوازية  لترتيب بيتها وتقدم هي بديل اخر يمثلها او ان تستمر بالثورة الى النهاية في اسقاط كل النظام الرأسمالي الذي تستند عليه البرجوازية وعدم افساح المجال للبرجوازية للملمه اشلائها وتنظيم صفوفها كي تقوم بالهجوم على مكتسبات الثورة وعلى الجماهير والحاق الهزيمة بها، واسئلة اخرى مثل من هي الطبقات التي مع الجماهير خرجت من اجل الحرية والمساواة وبغض النظر عن تفسير كل واحدة من تلك المقولات، ومن هي ضدها، وكيف تتمكن الجماهير من تشخيص طبيعة الحركات السياسية التي تمثل الطبقات المتصارعة المنخرطة في مسار الثورة قبل التعبير عن نفسها من خلال افعال ونشاطات معينة، كي تفصل نفسها عنها.

المعطيات العملية لثورة اكتوبر:

ان تجربة ثورة اكتوبر تعلمنا ان اية ثورة لا يمكن ان تحقق الانتصار ابدا دون ان تضع الطبقة العاملة، ممثلة بحزبها السياسي نصب عينيها السلطة السياسية والة الدولة. لقد كانت الطبقة العاملة في روسيا تواجه بشكل مباشر البرجوازية الروسية. صحيح ان الثورة جمعت الطبقة العاملة والبرجوازية والبرجوازية الصغيرة وشرائح اجتماعية اخرى لإسقاط النظام القيصري في ثورة شباط من عام ١٩١٧، الا ان مسار الثورة وبعد اسقاط القيصرية أحدث استقطابات حادة بين البرجوازية وبين الطبقة العاملة بحيث حدثت سلطة مزدوجة، سلطة المجالس التي شكلتها الطبقة العاملة وسلطة البرجوازية المتمثلة بحكومة كيرنسكي. ان هذه الاستقتطابات توضح مدى قوة العمال التنظيمية والسياسية في مسار الثورة وفي المجتمع. بيد ان المضي بالثورة الى النهاية، كان يحتاج الى عامل اخر وهو الحزب السياسي. ان هذا الحزب المتمثل بالبلاشفة ولينين هو الذي مكن الطبقة العاملة في تمتعها باستقلالها الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي. ان نضال البلاشفة وخاصة النضال الفكري الذي شنه لينين اعطى حصانة فكرية متينة للتيار الشيوعي في صفوف الطبقة العاملة الروسية الذي استطاع ان يجر كل الطبقة العاملة ورائه. فلقد تحدث لينين عن الامبريالية العالمية ودورها وارتباط النظام الرأسمالي في روسيا بها، وبين انه لا يمكن ان تكون البرجوازية المشاركة في الثورة مدافعة عن مكتسبات الثورة الديمقراطية، وان وصول الثورة الديمقراطية الى محطتها النهائية غير ممكنة في روسيا دون قيادة الطبقة العاملة “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية”. كما تحدث بالتفصيل عن الدولة ودورها في حسم مصير الثورة، وكيف على الطبقة العاملة التعامل مع هذه المؤسسة الدواينية والقمعية لتفويت الفرصة امام البرجوازية في التقاط انفاسها. لقد كان كتابه “الدولة والثورة” الصادر في عام ١٩١٧ اسهاما نظريا كبيرا ألهم الطبقة العاملة المضي قدما نحو العتبة النهائية للثورة. ومنذ هزيمة ثورة ١٩٠٥ وحتى ثورة اكتوبر ١٩١٧ كان البلاشفة يركزون عن الدعاية والتحريض والتنظيم في صفوف الطبقة العاملة كسياسة يومية وعملية، واستطاعوا تنظيم القسم الواعي الشيوعي داخل الطبقة العاملة. وعلى الصعيد السياسي استطاع لينين برؤيته الثاقبة تحديد مسارات الثورة في مراحلها النهائية، حيث كتب “موضوعات نيسان” الشهيرة وحدد توازنات القوى الطبقية في خضم الثورة، وبالتالي رسم الطريق نحو السلطة السياسية.

ان ما نريد ان نبينه وما نتعلمه ان الشرط الاولي لنجاح الثورة في عصرنا هذا هو وجود الحزب السياسي الثوري المسلح بالماركسية المرتبط مع التدخل الفعال للطبقة العاملة. وان الحزب الماركسي هو صمام الامان للاستقلال النظري والسياسي والتنظيمي للطبقة العاملة لتحقيق المطالب الديمقراطية وتوسيع قاعدتها وقيادتها نحو الثورة الاشتراكية. واستطاع البلاشفة وبخطى حثيثة قيادة الطبقة العاملة نحو السلطة السياسية. وهكذا دمر البلاشفة والعمال الدولة البرجوازية واسسوا على انقاضها دولة الطبقة العاملة والفلاحين او دكتاتورية الطبقة العاملة والفلاحين. اما قصة نجاح تطبيق الاشتراكية، فهي قصة اخرى وكما ذكرت في بداية هذا الموضوع، تطرق منصور حكمت باسهاب الى تلك التجربة وقدم تشريحا نظريا وسياسيا لها في نقد تجربة ثورة العمال  “انظر-منصور حكمت- نقد التجربة السوفيتية”.

الطبقة العاملة تحسم مصير النظام البرجوازي الحاكم:

ان المحاكمة الماركسية حول الثورات تقول؛ ان اندلاع الثورات يكون غالبا خارج ارادة الاحزاب السياسية والطبقات والافراد، ولا يأتي بتوقيت من اي طرف او بتحكم من احد، وتضيف المحاكمة اللينينية اليها ان الثورة تنجم عن الوضع الثوري، فلا ثورة دون وضع ثوري، كما ان ليس كل وضع ثوري يؤدي بالنتيجة الى ثورة، يصف لينين شروط ذلك الوضع؛ لا يكفي ان القاعدة لا تريد بل ايضا ان القمة لا تستطيع ان تحكم بالطريقة السابقة، وثانيا ان البؤس والشقاء يبلغ اوجه في المجتمع وثالثا ان يتعاظم كثيرا، للأسباب المشار اليها نشاط الجماهير التي تستسلم للنهب بهدوء في زمن “السلم”، ولكن التي تدفعها في زمن “العاصفة” سواء اجواء الازمة او “القمة نفسها” الى القيام بنشاط تاريخي مستقل. “انظر-افلاس الاممية الثانية-لينين”. ومن خلال هذا التحليل نستطيع ان نقول ان الوضع الثوري بلغ اوجه في مصر. ان اقسام اجتماعية مختلفة نزلت الى الميدان، الشباب العاطلين عن العمل، العمال، البرجوازية الصغيرة، البرجوازية المعارضة التي تبحث في خضم الثورة عن تحسين امتيازاتها. وبسبب مشاركة تلك الاقسام، تسود الشعارات العامة التي رفعتها الجماهير وابرزها كان “الشعب يريد اسقاط النظام”. ولقد ابدت احدى اجنحة البرجوازية الحاكمة في مصر المتمثلة بالجيش  محاولات تغيير وجه النظام بتنصيب عمر سليمان مدير المخابرات نائب للرئيس ثم رئيسا بدل من مبارك، الا ان اللعبة لم تنطل على الجماهير. وان نفس مؤسسة الجيش التي تدير الاقتصاد المصري عبر شركاتها ومؤسساتها المالية وتدير دفة السلطة والدولة، اصابها الذهول وبدأت تنسحب شكليا من الواجهة وخاصة عندما رفضت الجماهير عمر سليمان ثم المشير طنطاوي. بيد ان الثورة التي كانت ثورة ديمقراطية لم تتمكن من المضي قدما حتى لتثبيت المطالب البرجوازية بأصالة الفرد وحقوقه الانسانية فما بالك بتحولها الى ثورة اشتراكية الذي بحاجة الى الوعي الثوري والشيوعي للطبقة العامة ودرجة اتحادها وانسجامها. اي بعبارة اخرى ان الثورتين المصرية والتونسية هي حصيلة مشاركة خليط من الطبقات المختلفة، وان واحدة من مميزات الثورتين كما في الثورات العامة هي تمرد الفرد على مؤسسات الدولة والاحساس بقدرته وقوته وحيثيته الانسانية وكرامته، وهذا هو السر في حرق مباني ومقرات مباحث امن الدولة في مصر وهو الجهاز القمعي والوحشي السياسي للنظام البرجوازي الحاكم الذي مثل الة الرعب في المجتمع المصري. “انظر –استيقاظ البلدان العربية على هامش التطورات الثورية في مصر وتونس-كورش مدرسي”. وفي خضم هذا العنفوان ضد الدولة ومؤسساتها القمعية تظهر اقسام البرجوازية المعارضة لتلعب دورها الذي ينتظرها حيث سنتحدث عنها لاحقا.

كان نظام مبارك ومن ورائه العسكر يحاولون اعادة الامور الى نصابها او على الاقل السيطرة عليها من خلال تقديم تنازلات عبر زيادة رواتب الموظفين وتقاعد العمال وعموم العمال في القطاع الحكومي بنسبة ١٥٪ يوم ٧ شباط في اول اجتماع وزاري، الا ان نزول العمال الصناعيين في المدن وانخراطهم في الثورة قطع الطريق امام النظام بل والادهى من ذلك تخلى القسم الاكبر من الطبقة البرجوازية عن النظام وخاصة عن رأسه وراحت تبحث عن حلول عبر العسكر لاحتواء الثورة عندما نزلت الطبقة العاملة في ٩ شباط الى الميدان، اذ اضرب اكثر من ٣٠٠ الف عامل، ليبلغ في يوم ١٠ شباط اوجها وجرت شرائح اجتماعية اخرى اليها مثل الاطباء والمحامين الذين تظاهروا بالآلاف. وهكذا تطيح البرجوازية الحاكمة بالجيش برأس النظام وتلاه نائبه ثم من كان نسيجه مثل المشير الطنطاوي.

تكرار سيناريو الخميني في مصر وتونس:

 البرجوازية في المعارضة او المشاركة في تلك الثورة، تحاول بقدر تحسين مكانتها وموقعها السياسي ومن ثم الاقتصادي وانتزاع ما يمكن من امتيازات بنفس القدر تعمل بالمقابل على انقاذ مؤسسات الدولة القمعية واجهزتها. وهكذا يظهر الى السطح تيار “الاسلام السياسي” المتمثل بالإخوان المسلمين ومشتقاته الذي لم يشترك في الثورة الا في يوم الرابع او الخامس للثورة بشكل رسمي، حيث وقف ينظر من اعلى التل الى الثورة وهي تبث الهلع في صفوف الطبقة البرجوازية الحاكمة وتهز كل اركان الدولة البرجوازية المصرية.

وبغياب الصف السياسي المستقل والقدرة الموحدة للطبقة العاملة تسحب البرجوازية انفاسها عن طريق عقد صفقة بين الاخوان المسلمين والجيش لكسب الوقت وانهاك قوى الجماهير والسيطرة على لجامها وتفريغ غضبها ومحتواها الثوري. وعلى الصعيد العالمي تعلن القوى الامبريالية العالمية استنفارها، وتحاول الظهور بأنها المدافعة عن الديمقراطية وعن الشعب المصري، اذ ترفع يدها عن نظام مبارك وتطلب منه الاستقالة، وفي نفس الوقت وبشكل سري تعد الدعم السياسي والمالي لدفع اخوان المسلمين الى الواجهة وان تسيطر على العاصفة الثورية التي بدأت تعبر الحدود المصرية والتونسية الى البلدان العربية الاخرى. وعلى اساس السيناريو الجديد الذي بدأت ترسمه الادارة الامريكية تحديدا بتسويق الاخوان المسلمين كتيار اسلامي معتدل في المنطقة كي تؤمن من جهة تفريغ الثورتين المصرية والتونسية من محتواها، ومن جهة اخرى اعادة رسم نفوذها في الشرق الاوسط وشمال افريقيا. واذا كان ماركس يعلمنا في جملته التاريخية التي نكررها في جميع الاحداث السياسية التي تقع في المنطقة وهي ان التاريخ يعيد نفسه مرتين، في الاولى تراجيدي وفي الثاني بشكل كوميدي-الثامن عشر من برومير”، فأن مسلسل تأهيل الاسلام السياسي كقوى الثورة المضادة في الثورة المصرية هو الحدث الكوميدي، حيث اعتقد تيار الاسلام السياسي في مصر بأنه سيمسك بالسلطة كما في سيناريو الثورة الايرانية. فالحدث الاول الذي كان تراجيدي فهو صعود الاسلام السياسي في ايران والتفافه على ثورة ١٩٧٩ وانقاذ النظام الرأسمالي من براثن الثورة بدعم الغرب نفسه. فلا يمكن استغفال الذاكرة مهما مرت من ايام وسنوات، ومهما حاول الاعلام الرأسمالي العالمي الغارق بالرياء طمس حقيقة تسويق الاسلام السياسي كي يستلم السلطة السياسية في ايران. لقد كانت خطب الخميني تبث عبر الاذاعات مونتي كارلو وبي بي سي وصوت امريكا ابان الثورة، وليس هذا فحسب بل ان الخطوط الجوية الفرنسية نقلت الخميني عبر احدى طائراتها الى طهران. وتكرر نفس السيناريو الذي اتبعته امريكا مع مبارك مثلما حدث مع الشاه عندما طالبته بمغادرة السلطة. الا ان التراجيديا التي كانت بالنسبة لامريكا بنفس القدر من الكوميديا في الثانية هي تقديم الاسلام السياسي المتمثل بإلاخوان المسلمين قربانا على مذبح انقاذ مصالح الدولة البرجوازية في مصر. ان سيناريو ترسيخ سلطة الاسلام السياسي في مصر فشل، لانه  فشل في اخماد نيران الثورة. فشل في قمع الاحتجاجات العمالية وفشل في اخماد المطالبات بتوسيع قاعدة الديمقراطية والحريات. وخلال ايام سلطة الاخوان المسلمين الذي رأسها محمد مرسي، ازداد حدة الصراع الطبقي بين البرجوازية التي كانت في المعارضة التي صعدت على كتف الثورة الى السلطة وبين الطبقات المسحوقة التي يتقدمها العمال والعاطلين عن العمل والنساء. لقد حاولت مؤسسة الجيش بإخلاص دعم سلطة الاخوان المسلمين لكن مساعيها ارتطمت بجدار الثورة التي لم تستطع لا مناورات الجيش الاولى ولا الاعلان الدستوري ولا الانتخابات تدميرها. وهكذا كانت البرجوازية بحاجة الى القضاء على تشرذمها السياسي في قمة السلطة لتدمير جدار الثورة والالتفاف عليها.

****

لقد وقفت جماهير العمال والشباب العاطلين عن العمل والنساء والجموع المحرومة عارية امام البرجوازية التي تمتلك خبرة سنوات عظيمة وامكانات مهولة من اعلام ومؤسسات قمعية واموال طائلة وتصطف ورائها قوى امبريالية عالمية، نقول وقفت عارية لا تمتلك حزبها السياسي المنظم او قيادة موحدة  تسلحها بأفقا سياسيا واضحا ولا خبرة نضالية مثلما امتلكتها الجماهير الروسية في ثورة ١٩٠٥ والتي خدمتها في ثورتها عام ١٩١٧.

وقد وصل الصراع السياسي الى اوجه في حزيران ٢٠١٣، فاحتشد ٣٠ مليون انسان في طول مصر وعرضها يطالبون بأسقاط سلطة الاخوان المسلمين. وكان اكثر الاتجاهات توهما في هذه اللحظات هي اليسار بمعظم تياراته ولا يمتلك بوصلة سياسية واضحة ولا يدرك التوازنات الطبقية ومكانة كل طبقة واهدافها في هذا الصراع. وكانت الطبقة العاملة تشارك في هذا الصراع لتحسين ظروف معيشتها، اذ ظلت سلطة الاخوان المسلمين بالنسبة لها هي امتداد لنظام مبارك ولم يطرأ اي تحسن على ظروف حياتها بل ازدادت سوءا. بينما كانت الشرائح الاجتماعية الاخرى ذاقت ذرعا من الممارسات المعادية للحريات الانسانية والحقوق الفردية من قبل السلطة المذكورة ومحاولاتها لأسلمة المجتمع. وظل الشباب بدون الحصول على اي فرصة عمل او على الاقل طمأنتهم بمستقبل واعد. وخلال كل هذه الصراعات استطاع الاخوان المسلمين انقاذ مؤسسات الدولة القمعية دون المساس بها باستثناء حرق عدد من مبان امن الدولة ومراكز للشرطة هنا وهناك. وكان التناغم الذي حدث بين مؤسسة الجيش والاخوان المسلمين هو الذي منع ان تمس الجماهير الغاضبة الدولة القمعية المتمثلة بالجيش ناهيك على الاوهام القومية التي رسختها البرجوازية وطوال فترة حكم العسكر منذ انقلاب في عام ١٩٥٢ بأن الجيش هو الوسيط الامين بين الشعب وبين الحكومة. وفي هذه اللحظة التاريخية بالضبط وفي خضم الاوهام الراسخة في المجتمع وفي وعي الجماهير حاول الجيش، ان يظهر بمثابة بطل منقذ للجماهير والمجتمع من وحش اسمه الاخوان المسلمين، ويبدئ بالتنكيل بهم ويدفع الجموع الثائرة الى بيوتهم ومساكنهم ويعلن انه خرج الى الشارع بمقتضى الشرعية الثورية كي يدافع عن مكتسبات الثورة، ونزولا عند مطالب الجماهير. وفي مقابل ذلك ترحب معظم القوى السياسية بانقلاب الجيش الذي سموه بالثورة او اكمال لمسيرة الثورة. وتحولت معاداة “الاخوان المسلمين” الى افق اخر للثورة التي أسدل الجيش بانقلابه العسكري اخر فصولها. وشارك معظم تيارات اليسار لا على الصعيد مصر فحسب بل على صعيد المنطقة برمتها هذا الافق وراح ينثر مع البرجوازية الحاكمة تلك الاوهام في المجتمع ويرحب ويصفق بحماسة غير متناهية للدبابات والعجلات العسكرية التي نزلت في شوارع المدن المصرية تلاحق فلول الاخوان المسلمين.

ان الطبقة العاملة المصرية التي عانقت الثورة، وحسمت مصير نظام مبارك، دفعت ثمنا غاليا لهزيمة الثورة، التي توجت بالانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي. لقد نصبت المحاكم العسكرية لقادتها وفعاليها ونشطائها، واصبحت اي حركة مطلبية تواجه بيد من حديد. ان الطبقة العاملة كانت من اكثر الطبقات المتصارعة في الثورة وبأمكانها ان تجنب المجتمع الويلات والقمع والانقضاض على الثورة وترسيخ مكتسباتها الديمقراطية لو كانت تمتلك على الاقل تلاحم داخلي مثلما كانت تمتلكها الطبقة العاملة التونسية.

ان ميزة الثورة في تونس عن ميزتها في مصر، هي وجود اتحاد الشغل، وبغض النظر عن الاتجاهات والتيارات المتصارعة داخل صفوفه ، التي تحدد افقه. وليس من المبالغة اذا قلنا ان مآل الثورة في تونس في عدم تعرضها الى قمع وحشي مثلما حدث في مصر هو بسبب وجود الاتحاد العام التونسي للشغل الذي بمعنى ما، هو وجود طبقة عاملة واعية بمستويات معينة فوتت الفرصة على البرجوازية بالانقضاض عليها. وحاولت البرجوازية مثلما حدث في مصر ان تدير اللعبة بنفس الطريقة في تونس، في الوهلة الاولى، بأقصاء بن علي وعائلته وبعد ذلك الحزب الحاكم، ثم تشكيل حكومة انتقالية يشاركها ثلاثة من قيادي اتحاد الشغل الا انه وبضغط القاعدة العمالية انسحب الثلاثة من الحكومة لأن رئيس وزرائها انحدر من نظام زين العابدي بن علي. واستمرت الاحتجاجات لتصل الى ذروتها في ٢٧ شباط لتطالب الجماهير بحل المؤسسات القمعية من امن ومخابرات التابعة للنظام بن علي والبرلمان. وقد تم التضحية بالعديد من رموز النظام كمحاولة من البرجوازية في احتواء المد الثوري. وبنفس الطريقة التي حدثت في مصر، استطاع حركة النهضة الاسلامية وهي اخوان مسلمي تونس النفاذ الى السلطة عبر الانتخابات في الوقت الذي كان بأمكان اتحاد الشغل لو امتلك زمام المبادرة ان يعمل على تأسيس سلطة موازية لسلطة البرجوازية مثلما حدث في روسيا في ١٩١٧، السلطة المجالسية وحكومة كيرنسكي١٩١٧، وليس التوهم بالبرلمانية واعطاء الفرصة للبرجوازية في اعادة انتاج سلطتها عبر انتخابات حسمت نتائجها سلفا. وهنا يأتي دور الحزب السياسي الذي بأمكانه تسليح الطبقة العاملة بإفاق واضحة ويرسم تكتيكات يومية لعبور المسارات السياسية التي يفرضها الصراع الطبقي في خضم الثورة.

المطالب الديمقراطية والسلطة السياسية:

ان مميزات الثورتين التونسية والمصرية هي انها ثورات ديمقراطية، ولكن من الحماقة ان يفهم منها ان البرجوازية بكل تياراتها بإمكانها قيادة هذه الثورات بحيث يمكنها تحقيق المطالب الديمقراطية التي رفعتها الجماهير. لقد حسم لينين هذه المسالة منذ ثورة ١٩٠٥. كما بينت الثورة المصرية كيف ان البرجوازية التي تمثلت بالإخوان المسلمين سارت على نفس خطى نظام مبارك الى جانب فرض اسلمة المجتمع وقمع كل اشكال ما تبقى من الحريات الفردية في زمن نظام مبارك.

وهناك خصيصة ليس هنا المجال لبحثها، ولكن نستطيع ان نعرج عليها بشكل سريع وهي انها في الدول الرأسمالية التابعة في النظام الامبريالي العالمي كما يصفه منصور حكمت عندما يتحدث عن النموذج الايراني وثورة ١٩٧٩ “انظر-اسطورة البرجوازية الوطنية-الجزء الاول” وفي “البرويتاريا والثورة” في كتاب “خصائص تطور الانظمة الرأسمالية التابعة”، ليس هناك اية فرصة لتحقيق المطالب الديمقراطية بقيادة البرجوازية. فخصيصة النظام الاقتصادي الرأسمالي هي استناده على شدة استغلال قوة العمل لإنتاج فائض القيمة في بلد مثل مصر التي تعتبر من الانظمة الرأسمالية التابعة. وهذا الواقع يفرضه النظام الامبريالي او الرأسمالية الاحتكارية العالمية ضمن التقسيم الرأسمالي للعمل على الصعيد العالمي. وهذا يعني ان التأييد الغربي الحكومي والرسمي وكل اعلامه المأجور للمطالب الديمقراطية، يأتي ضمن محاولات التأثير والتدخل على مجريات الثورة، واظهار الغرب نفسه كمدافع عن الديمقراطية وتسويق بديله السياسي وهو النظام البرلماني وصناديق الاقتراع لإعادة انتاج السلطة البرجوازية وانقاذها من عجلة الثورة. ان توسيع المطالب الديمقراطية من حرية الاضراب والتنظيم والراي والتظاهر والمساواة يعني انتزاع الطبقة العاملة وبقية الشرائح الاجتماعية المحرومة حصة من النظام الرأسمالي العالمي من فائض القيمة الذي ينتج في مصر عبر القمع والحرمان. ان دعم الانظمة الغربية للأنظمة القومية العربية المستبدة وغض الطرف عن كل جرائمها ضد العمال والنساء والشباب يأتي ضمن توليدها للربح للرأسمالية الاحتكارية.

اي ما يجب الاشارة اليه عندما نتحدث ان البرجوازية وبجميع تياراتها فهي غير مؤمنة حقا بتحقيق المطالب الديمقراطية، لذا فان ذلك يعني ضرورة طرح البديل لها.

في خضم الثورتين المصرية والتونسية لم يطرح العمال انفسهم كبديل. وحتى في احسن الاحوال في النموذج التونسي تحول العمال عن طريق الاتحاد العام التونسي للشغل الى صمام امان لعدم سقوط النظام البرجوازي، بل وفي كثير من الاحداث السياسية يعمل اتحاد الشغل من جهة وتحت ضغط القاعدة على اتخاذ مواقف راديكالية او تقدمية ضد سياسات النظام السياسي القائم، ومن جهة اخرى يعمل كمستشار او ناقوس خطر ومنبه للنظام. ولذلك ما نراه في مصر بعد الانقلاب العسكري من اتباع سياسات اقتصادية معادية للعمال والاتفاق مع المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والرضوخ لشروطها في رفع اسعار الخبز والوقود…الخ نجدها في تونس ايضا، الا ان الفارق ان تنفيذ السياسات في مصر يتم عن طريق القمع والاستبداد بينما في تونس يتم عن طريق الاعيب البرجوازية ومناوراتها ومراوغاتها ويلعب اتحاد الشغل دورا محافظا يخدم السياسات البرجوازية.

ما نريد ان نؤكد عليه انه دون استلام الطبقة العاملة السلطة السياسية، دون شعور العمال بأنهم طبقة يمكن لهم ان يستولوا على السلطة، فأن دولايب البؤس والشقاء والافقار وحتى القمع بكل اشكاله كما نراه في مصر وقبلها في ايران سيعاد تشغيلها وبوتيرة اسرع من قبل، فعندما تتراجع الحركة العمالية فأن البرجوازية تتفرد بالمجتمع.

والنقطة الاخيرة في هذا الموضوع التي نود الاشارة اليها، لقد ظلت المؤسسات القمعية في مصر وتونس دون اي مس، ولذلك لم تتعب البرجوازية من اعادة ترتيب اوضاعها والسيطرة على الامور، بل والاكثر من ذلك ان الاحتقان الثوري الذي كان يهدد السلطة البرجوازية الحاكمة في مصر عشية ثورة يناير الذي انفجر بشكل ثورة، استطاعت البرجوازية في مصر وحتى العالم الرأسمالي التخلص منه واعطاء جرعة جديدة لبث الروح في النظام الرأسمالي المتهرئ ومنحة فرصة اخرى كي يكون على قيد الحياة لفترة اخرى. لقد ظلت الة الدولة المتمثلة بالجيش في مصر بمنأى عن دولاب الثورة، والادهى من كل ذلك ان الروح التي كانت تخيم على ادمغة الجماهير المصرية هي تقديس الجيش، واعتباره المنقذ والحكم العادل. بيد ان كل الثورات التي حدثت في القرن العشرين وهذا القرن تعلم لا مصلحة لاحد بالتخلص من هذه الالة القمعية سوى الطبقة العاملة. وكانت الطبقة العاملة في مصر اضافة الى انه لم يكن لديها تلاحم داخلي ولا تملك حزبها السياسي ولم تفكر بالسلطة السياسية، فقد كان قسم كبير منها يلهث وراء الجيش.

انه الدرس البليغ الذي نتعلمه من اكتوبر، دون طبقة عاملة لديها انسجام داخلي ودون حزب سياسي يمثل مصالحها ويرسم لها افاقها ويسلط الضوء على مسارات السياسية التي تفرضها واقع الصراع الطبقي، ودون الجسارة للمضي الى الامام باستلام السلطة السياسية وتدمير الة الدولة البرجوازية، فأن البرجوازية ستنتصر وتفرض حياة حالكة وقاسية لا على الطبقة العاملة لوحدها بل على عموم المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى