وصل الموظفون في الوقت المحدد بالضبط إلى مكاتبهم في جميع أنحاء تايوان، وهي ممارسة تعرف باسم “يا مياو” وتحمل رسالة مهمة حول استقلالية مكان العمل.
تشعر جوليا هسو، التي تعمل سكرتيرة في إحدى المدارس في تايوان، بالدهشة عندما يأتي أحد زملائها طواعية للعمل قبل الموعد الرسمي. وعلى الرغم من أن هسو، البالغة من العمر 27 عامًا، تدرك أهمية الذهاب إلى العمل في الوقت المحدد، فإن فكرة الحضور قبل الوقت الرسمي لا تروق لها على الإطلاق.
وفي معظم أماكن العمل في تايوان، يكون الذهاب إلى العمل قبل الوقت المحدد أمرًا مستهجنًا – ليس من قبل الإدارة، لكن من قبل زملاء العمل ممن هم على نفس الدرجة الوظيفية. ونتيجة لذلك، تستقبل هذه المكاتب موجة كبيرة من الوافدين دفعة واحدة، نظرا لأن الموظفين يصلون قبل موعد العمل بثوان معدودة لبدء يوم العمل.
تقول هسو إن الالتزام بالحضور قبل الموعد بثوان معدودة أمر مهم للغاية، إذ يجلس الموظفون في الخارج وينتظرون وقت العمل قبل أن تطأ أقدامهم المكاتب.
ويُطلق على هذه الممارسة اسم: “يا مياو”، أو “ضغط الثواني”. وتوجد هذه العادة بشكل كبير بين العاملين في الشركات المملوكة للعائلات أو المؤسسات الأكبر والأكثر تقليدية، والذين اعتادوا على العمل لساعات طويلة تحت إشراف دقيق.
وفي أماكن العمل شديدة الصرامة، أصبحت “يا مياو” هي الطريقة الأكثر فاعلية – وإن كانت سلبية وعدوانية – للموظفين للاحتجاج على ظروف العمل.
ومن الصعب العثور على فرد أو مجموعة يمكنها أن تشرح بالضبط متى ولماذا ظهرت “يا مياو” لأول مرة. لكن هذه الممارسة منتشرة على نطاق واسع لدرجة أنه من الصعب العثور على صناعة يذهب فيها العمال إلى أماكن عملهم عن طيب خاطر قبل الوقت المحدد.
يقول هوانغ جيا يا، البالغ من العمر 30 عامًا، والذي كان يعمل كمرشد سياحي في السابق ويعمل الآن في منظمة غير هادفة للربح: “هناك بعض الضغوط للالتزام بممارسة (يا مياو)، لكن هذه الضغوط غير مرئية. يشعر الناس أنه يتعين عليهم الالتزام بـ (يا مياو)، التي تحولت إلى ممارسة ثقافية”.
وتعتقد لو شو هان، البالغة من العمر 37 عامًا والتي كانت تعمل في شركة تجارية مملوكة لعائلة قبل الانضمام إلى اتحاد رياضي تابع للحكومة، أن ممارسة “يا مياو” تطورت بسبب ممارسات العمل التقليدية.
وتقول: “لم يكن الموظفون يحصلون أبدا على أي أجر إضافي في حال استمرارهم في العمل بعد نهاية الوقت الرسمي، لكن إذا لم ينته العمل قبل وقت الانصراف فمن المتوقع أن يواصلوا العمل وينهون مهامهم على أي حال. لذا، كان التفكير في ذلك الوقت هو أنه إذا كان يتعين علينا البقاء بعد ساعات العمل الرسمية، فلماذا نأتي إلى العمل قبل الوقت المحدد؟”
ورغم أن تايوان تحولت إلى دولة حديثة منذ انتقالها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، فإن ممارسات العمل التي تعود إلى عقود من الزمن لا تزال تُطبق حتى الآن، لا سيما داخل العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وفي عام 2018، سجلت القوى العاملة التايوانية رابع أطول متوسط ساعات عمل في العالم، وفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهناك ضغوط على العاملين للبقاء في مكاتبهم لفترة طويلة بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية.
يقول هوانغ: “إذا انتهيت من العمل في الوقت المحدد، فهناك تصور بأنك لم تنجز ما يكفي، لذلك في بعض الأوقات عندما ينتهي العمل خلال الوقت المخصص له فإن الرؤساء قد يشعرون بأن الأمر كان سهلا للغاية أو أن كمية العمل كانت قليلة بالمقارنة بالوقت المخصص لها”.
ويمكن أيضًا التحكم في بيئة العمل بصرامة، إذ تقول لو وهوانغ إن المشرفين وأصحاب الشركات يجلسون في الجزء الخلفي من المكتب حتى يتمكنوا من رؤية ما هو موجود على شاشات أجهزة الكمبيوتر التي يعمل عليها العاملون بالشركات.
وفي بعض الأماكن، لا يُسمح للزملاء بالتحدث مع بعضهم البعض، كما أن استخدام الهواتف المحمولة أثناء فترات العمل يمكن أن يأتي وفقًا لتقدير المشرفين.
ويمكن للقواعد غير المعلنة أن تجعل من الصعب للغاية الحصول على إجازة مسموح بها قانونيا. تقول لو: “حتى اليوم، فإن بعض الشركات الأكثر تقليدية لا تحب أن يحصل العمال على إجازة”.
وعلى الرغم من جهود الحكومة للحد من العمل الإضافي القانوني، تقول لو إن المكاتب تطلب ببساطة من العمال التوقف عن العمل ثم العودة إلى مقاعدهم مرة أخرى لاستكمال العمل!
ويرى كاري إل كوبر، أستاذ علم النفس التنظيمي في جامعة مانشستر بالمملكة المتحدة، والذي درس ثقافات العمل في جميع أنحاء آسيا، أن ممارسة “يا مياو” تعد بمثابة تحدٍ و”ثورة ضد ثقافة العمل لساعات طويلة” من قبل الموظفين الذين يعملون لأوقات إضافية ويضطرون للذهاب إلى العمل حتى وهم مرضى، وأحيانًا لا يشعرون بقدر كبير من الرضا الوظيفي.
ويضيف: “إنهم يشعرون بأن هذه الممارسة [يا مياو] هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها توجيه رسالة”.
وتعكس ممارسة “يا مياو” أيضا الاستياء الذي يشعر به الموظفون الأصغر سنًا، والذين يكون معظمهم من الخريجين الجدد والذين يتلقون أجورًا أساسية تبلغ حوالي 24,000 دولار تايواني (856 دولارًا أمريكيا). إن هذه الأجور المتدنية تجعل من الصعب على الموظفين الحاليين في تايوان تحقيق نفس المستوى من النجاح المالي الذي حققه الرؤساء والمديرون الآن.
تقول لو: “لقد أصبح الجيل الأكبر سنًا أفضل حالا من الناحية المالية من خلال العمل الجاد وقضاء ساعات طويلة في العمل، وكان كسب المال يمثل أولوية بالنسبة لهم. لكن الوقت قد تغير، ولم يعد العمل الجاد يجلب ذلك النوع التقليدي من الازدهار المالي بعد الآن”.