المقالات

في نقد الرومانسية الوطنية

سمير عادل

كثيرا ما يدعي العديد من الناشطين والفعالين في الانتفاضة وحتى قبلها بأنهم لا ينتمون إلى الأحزاب  وأنهم ينتمون فقط  “للعراق” كما هو اليوم مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الجديد. ويجاهرون بكل فخر بدعوتهم هذه في كل مكان، على صفحات التواصل الاجتماعي وفي ساحات وميادين الاحتجاجات والتظاهرات، بأنهم مستقلين وأنهم فقط عراقيين أو لا انتماء لهم لغير العراق، وكأنهم اكتشفوا علاج لمرض الكرونا الذي بث الرعب  المبالغ في صفوف العالم. 

 في الحقيقة أن هذه الدعوة بقدر انه اعتراف بأنهم غير مستقلين لأنهم ينتمون إلى التيار “الوطني” بنفس القدر يساهمون بشكل واعي وغير واعي بالتبشير لعدم التنظيم والذي يصب دائما في صالح الأحزاب والتيارات التي لوعت جماهير العراق بسلبها ونهبها وسرقتها وقتلها واغتيالاتها وعمالتها، وهذا واحدة من العوامل التي ساعدت على انتشار النزعة ضد التنظيم. فالنماذج التي عايشها وعاصرها الجيل الجديد من الأحزاب هي نماذج سيئة بامتياز.

لقد قلنا مرارا وتكرارا أن واحدة من نقاط ضعف انتفاضة أكتوبر هو سيادة النزعة ضد التنظيم، وهذا ما عرضها إلى انسداد الآفاق وتحول العديد من خيام الموجودة في ساحة التحرير إلى دكاكين لبيع المواقف السياسية تجاه المرشحين لرئاسة الوزراء أو تجاه اي طرح سياسي يخدم تيارات العملية السياسية  وإصدار البيانات التي في اغلبها هي الترويج لسياسة القوى والأحزاب السياسية في العملية السياسية.

إن سيادة الأفق الوطني “القومي المحلي” على الانتفاضة تجلى بشكل واضح حيث يسيطر عليها بقوة، وهذا الأفق كما يتغنى ادعيائه يصر على عدم قول أي شيء، وليس له اي طرح سياسي، سوى العزف وترديد “نحن العراق” “عاش العراق” “كلنا العراق، “ماكو واحد بكدي يحب العراق”..الخ وهذا بحد ذاته يعكس في محتواه عدم استقلاليته بعكس الادعاءات التي ينثرها أبطال (الوطنية). اي أن من يقف وراء هذا الأفق هو تيار اجتماعي عريض لكنه غير منظم بسبب النزعات ضد التنظيم أولا، وأنه لا يملك اي بديل سياسي ثانيا، ولا يملك اي برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي ثالثا.

 إن هذا الأفق هو احد العوامل من امسك بخناق الانتفاضة وكبل إقدامها ووقف عائقا امام تقدمها إلى الأمام، حيث أصبحت أسيرة لبدائل السلطة المليشياتية التي تطرح بين الفينة والأخرى مرشح لرئاسة الوزراء “ليس لديه جنسية أخرى”، حيث حصرت كل الانتفاضة ومطالبها بمرشح رئيس الوزراء وبالانتخابات المبكرة وبالتالي لتخنقها كي تلفظ أنفاسها الأخيرة.

إن هذا الأفق هو أفق رومانسي، أفق العاشق الولهان الذي تحول من شدة الم عشقه لمحبوبته إلى شاعر وليس سياسي، ويستميت بالدفاع عن شاعريته واحترافيته الوهمية والتي لا توجد سوى في خياله لينظم إلى جوقة الشعراء الفاشلين، انه يحاول الاستمتاع بألم عشقه ومستعد انتظار الحبيب أو الحبيبة لمئات السنين دون إن يحرك ساكن مثلما أشار صادق جلال العظم بصواب في كتابه “الحب العذري” إلى قصص الحب مثل قيس العامري وغيره من الشعراء.  انه ذلك “الوطني” الذي يترنح بين التيارات السياسية ويقفز هنا وهناك ليتحول دائما إلى أداة وحتى إلى وقود في صراع  تلك التيارات. على أن المهم بالنسبة له في كل هذا، هو التغني لعشق الوطن والكتابة عن “العراق” وانتمائه “للعراق” دون أن يحرك ساكنا من اجل نقل العراق إلى بر الأمان، أي عراق الحرية والمساواة والكرامة والقيمة الإنسانية. إن أقصى ما يذهب إليه  ذلك الرومانسي الوطني في نضاله هو التظاهر والهتاف والغناء بحب الوطن، دون أن يدرك أن كل عمله المضني وصوته المبحوح من كثر صراخه للوطن يجير لصالح التيارات السياسية التي تستبيح كل ثروات العراق وإنسانية البشر فيه.

إن ذلك الرومانسي “الوطني” لا يدرك من شدة عشقه وألمه، إن الموضوع ليس موضوع حب العراق من عدمه ، ليس حب جغرافية تسمى العراق، بل الموضوع هو تحت أية آفاق يكون هذا الحب وهذا العشق، وماذا يوجد في تلك الجغرافية؟، وكيف يتساوى الجميع من مصاصي دماء العمال والمحرومين وكلهم ادعياء الوطنية مثل العبادي والمالكي والصدر والعلاويين والحلبوسي، والكاظمي الذي يكتب بين سطر وسطر “السيادة، والعراق”، نقول كيف يتساوى بالوطنية مع تلك الجماهير المضطهدة. فكلهم يحبون العراق، فالعبادي والصدر والعلاويين والحلبوسي وصالح.. أعلنوا عن حبهم للعراق، ولا احد يستطيع أن يزايد عليهم، فالصدر حتى سلط مليشياته لقمع الانتفاضة من اجل العراق كما ادعى لتنصيب محمد علاوي، في حين حاول العبادي عقد صفقة من الولايات المتحدة الأمريكية لإنهاء النفوذ الإيراني في العراق، وهذا هو سر دوي سقوطه. أليس واحدة من النزعات السائدة في صفوف الجماهير المنتفضة وأكثرها قوة من بقية النزعات وهي النزعة ضد النفوذ الإيراني، وهلم جرا بالنسبة لبقية “الوطنيين”.

إن الولايات المتحدة الأمريكية تلعب ببراعة على وتر “الوطنية” وتحاول أن تسلحها بآفاقها وتحت عنوان عريض هي معاداة نفوذ الجمهورية الإسلامية في إيران وتحميل كل مآسي جماهير العراق على عاتق نظام ملالي قم وطهران، وكأن أبو بكر البغدادي المجرم الذي سطع نجمه لم يجتمع مع جون مكين رئيس لجنة التسليح في الكونغرس الأمريكي في واحدة من المناطق السورية عام ٢٠١٣ (كلاهما رحلا عن الحياة) وتم تعويمه ليتحول إلى  خليفة المسلمين في دولته الوحشية، وأعلن اي مكين عن دعمه لكل الجماعات الإرهابية المحصورة اليوم في مدينة ادلب السورية، أو كأن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي فرض الإفقار على جماهير العراق هما مؤسستان إيرانيتان، وليست أمريكية ومقرهما في نيويورك. اي بعبارة أخرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد عراق الوطنيين المخلصين خالي من النفوذ الإيراني كي يدور في فلكها.

وأخيرا أن الدعوة والتفاخر بالانتماء للعراق بدل من الانتماء للإنسان، وتقديم براءة ذمة من الانتماء للأحزاب،  هو انحياز واضح وانتماء  لتيار اجتماعي معين الذي يسمى “الوطني” والذي هو تيار مفلس سياسيا، تيار برجوازي صغير،  يعيش في أوهام بدل من الأحلام التي من الممكن تحقيقها، ليس على صعيد العراق بل على صعيد العالم، وهذا ما يجعله عرضة دائما أن يكون وقود للتيارات البرجوازية التي كفت أن تكون وطنية منذ زمن بعيد بسبب فقدان رأس مالها لخصيصته الوطنية، فالبرجوازية تعرف دائما من أين تؤكل الكتف.

إن الجغرافية ليست مقدسة، وان العراق ليس إلا بقعة جغرافية تقع في جغرافية عالمية، وان الإنسان في هذه الجغرافية أو تلك هو الذي يجب الغناء له والتضحية من اجله والنضال لتحقيق سيادة القيمة والكرامة الإنسانية في تلك الجغرافية. وان الانحياز يجب أن يكون للإنسان وفقط الإنسان وبغض النظر عن الهويات الزائفة التي فرضت عليه مثل الدين والطائفة والقومية …الخ. 

إن الدعوات إلى الاستقلالية تحت ستار  وشعار عريض بالانتماء فقط للوطن هو وهم إذا لم نقل أكذوبة، و يعني تحويل الجماهير إلى مادة للتلاعب بيد تلك القوى البرجوازية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى