احمد عبد الستارالمقالات

غزة من يتحمل ويشعر بمأساتها؟

احمد عبد الستار

تفاجأ العالم صباح يوم 7 أكتوبر من الشهر الماضي، بخبر الغارة الكاسحة التي شنتها حماس، على
إسرائيل. شهدت بدايةً إطلاق آلاف الصواريخ وصلت رشقاتها إلى تل أبيب، وتسلل جوي وبحري وبري
شملت مناطق غلاف غزة ومناطق أخرى، وأسر مئات من المدنيين ومقتل عدد منهم، وقتل وأسر عدد آخر
من العسكريين، بعضهم برتب عالية.
هذا الهجوم المفاجئ أدى إلى إصابة السلطة في إسرائيل، بحالة من الهستيريا. أعلن أثرها نتنياهو رئيس
الوزراء الإسرائيلي “إن اسرائيل في حالة حرب”. وهذا الإعلان هو ترخيص غير مقيد لارتكاب المجازر،
بحجة الحق في الدفاع عن النفس، وهذا الحق المزعوم غير جائز ومنافي للأعراف والمواثيق الدولية؛ لأن
إسرائيل دولة محتلة ومغتصبة.
أصرت إسرائيل بعد ذلك، إصراراً جلفاً منذ البادية على احكام كل أنواع الحصار على غزة، وشن غارات
مجنونة أدت منذ ساعتاها الأولى إلى مقتل آلاف الفلسطينيين وتدمير الإنشاءات والمساكن والمرافق
الحكومية، وحتى المستشفيات والمدارس لم تسلم من هذا القصف المدمر. وحسب مصادر فلسطينية تدمير
200 وحدة سكنية بالكامل.
وإلى الآن تستمر آلة القتل الجماعي، بفرم الأبرياء والعُزل. أعلنت اليوم وزارة الصحة الفلسطينية عن عدد
الضحايا بما يقارب العشرة آلاف ضحية ثلثهم من الأطفال، وإصابة عشرات الآلاف بجراح مختلفة. وتدمير
واسع قّورن مداه بما يساوي نصف القنبلة الذرية التي أسقطت على هورشيما. ولازال القتل والدمار
متواصل، ولأنهم يسعون إلى اجتثاث حماس كما يدعون، سوف يضحون بأكثر من مليوني شخص في غزة
وتشريدهم وتركهم بلا مأوى ولا غذاء وماء ودواء…بعد أن يقتلوا ويصيبوا عشرات الآلاف منهم، هم
وأطفالهم. بمشاهد تطالعنا كل ساعة عن الفواجع التي تحصل بالأطفال والكبار، يصعب على النفس
الإنسانية السليمة تقبلها أو السكوت عنها. ولم يكيفِ أحد قادة إسرائيل المتطرفين بكل الدمار الذي لحق
بغزة، ودعى بإلقاء قنبلة ذرية عليها. ونتياهو رفض هذه الدعوة، لأن لسان حاله يقول: لندع الصواريخ
الفتاكة والفسفور الأبيض والقنابل العنقودية تفعل فعلها مجتمعة، فهي أكثر متعة وأقل تكلفة من القنبلة
الذرية.
سيناريو الرعب هذا، تُشاهد تفاصيله المتوالية ويُعرض أمام أنظار كل أنظمة الحكم بالعالم. بدون أي ردة
فعل تُذكر قياساً بمستوى ما يحصل. سوى ما اعتدنا عليه من شجب وإدانة وتصريحات مداهنة، أو غير
ملتزمة، أو مطالبات بوقف فوري لإطلاق النار. سواءً أكانت من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، والجامعة
العربية والجامعة الإسلامية.
وهذا العالم، عالم الرأسمالية لا يفعل اليوم سوى التفرج، على معركة غير متكافئة تسحق فيها الأبرياء
والأطفال، تحت آلة جهنمية لا تعرف الرحمة. فأن ما يحصل في غزة في هذه الآونة، كشف حقيقة هذا
العالم بلا لبس فيه، أكثر من أي وقتٍ مضى. كالعدسة التي تركز الضوء في نقطة ما إلى حد الاحتراق.
تركزت في مساحة لا تتعدى 40 كم وعرض بين 6 إلى 12 كم يتكدس فيها ما يزيد على المليوني إنسان،

كل وسائل الغرب وخبرتهم الإجرامية التي تمتد إلى قرون. في الإبادة والظلم والرياء واغتصاب حقوق
الآخرين. وصلت إلى مرحلة حالياً لا تملك أي دفاع عن قبحها إلا بمزيد من القبح، والرأسمالية اليوم هي
في طور المريض المستعصي علاج مرضه إلا بالاستئصال. ويخلف هذا اضطرابات نفسية مدمرة، إنها
السادية بعينها، التي لا تكترث بإلحاق الأذى بالغير. وهذا هو واقعهم الذي يعيشوه بالاستمتاع على زهق
أرواح الناس والأطفال في غزة وتدميرها، هذا هو ال”عالم بلا قلب” كما شخّص كارل ماركس أزمة هذا
النظام من قبل.
ومن جهة أخرى شكّل هذا التكتل الغربي، فضيحة مخجلة أمام مجتمعاتهم المتحضرة، الرافضة للعدوان
الإسرائيلي السافر ضد الفلسطينيين، ومشاركة حكوماتهم بدعمه. خرج مئات الآلاف في أمهات العواصم
والمدن الغربية، وفي أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، وآسيا والشرق الأوسط، وحتى في إسرائيل نفسها
حصل نوع من الحراك ضد هذه الحرب الظالمة.
بدأت تتعاظم هذه التظاهرات، وتأخذ أبعاد يومية. مطالبة بوقف العدوان ووضع حد للمجازر الإسرائيلية
بالفلسطينيين، التي روعتْ ضميرهم الإنساني، وحثهم على الخروج في الشوارع والأماكن الكبرى، رافعين
شعارات “الحرية لغزة.. الحرية لفلسطين.. أوقفوا القتل..” ودمى بالأكفان تصور ضحايا الأطفال وغيرها
من الشعارات الكثيرة ولافتات التضامن.
هذا دليل صارخ على إن الإنسانية تبقى حية في ضمائر البشر، والهوية الإنسانية هي واحدة في كل مكان
من العالم. مهما حاول الرأسماليون تفكيك وحدة الإنسانية، إلى أجزاء موزعة بين قوميات وأديان وأجناس
متعادية، وتنشر الكراهية بلا حدود.
الرأسمالية اليوم في عزلة عن البشرية وضمير الإنسان، تتربص وتنتظر عما يسفر من نتائج عن العدوان
في غزة، لتبدأ بدورة جديدة من حرب وإبادة جديدة في مكانٍ ما من العالم.
لكن يبدو إن مارداً بدأ ينهض ضد الرأسمالية العالمية وأداتها إسرائيل في الشرق الأوسط. بدأت ملامح
تبدو أكثر من مجرد تظاهرات ضد الحرب على غزة، ملامح المؤازرة وتعاون البشرية، على قضية ذات
أبعاد إنسانية فهمت أسبابها جيدا المجتمعات البشرية المسحوقة تحت نير الرأسمالية، تتشارك آهاتهم مع
آهات غزة. إن الإنسانية بخير وبصحة جيدة، ولا تتسرب إليها أمراض الرأسمالية. رغم كل المآسي التي
ألمت بنا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى