المقابلات

مقابلة جريدة (إلى الأمام) مع سمير عادل حول تبني الهوية العلمانية للدولة السودانية وأهميتها في المنطقة

الجزء الاول.

إلى الأمام: ما هي العوامل التي تقف وراء موافقة الطبقة الحاكمة على تبني الهوية العلمانية للدولة او مثلما جاءت في اتفاقية إعلان المبادئ، بالرغم من إنها كانت ولسنوات تحت سيطرة الإخوان المسلمين، وما زال المجلس السيادي الذي يقوده العسكر هو امتداد للنظام السياسي البائد البشير-إخوان المسلمين؟

سمير عادل: قبل كل شيء لابد من التنويه ان العلمانية كانت طرح البرجوازية او جزء من مشروع البرجوازية الصاعدة في أوروبا في خضم صراعها مع الكنيسة والاقطاعية خلال قرن الثامن عشر، وقد حسمت أمرها في الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ وسنت لأول مرة فصل الدين عن الدولة في دستور الثورة الفرنسية. اي بمعنى اخر ان تبني الطبقة البرجوازية للهوية العلمانية ليس بشيء جديد وحسب مقتضيات مصالحها الاقتصادية والسياسية، ولكن الجديد في المشهد السياسي السوداني وفي بلد حكمه على الأقل ثلاثة عقود نظام إسلامي وقومي مستبد، تتبنى الدولة السودانية والطبقة الحاكمة فيه مشروعين سياسيين في آن واحد؛ مشروع الهوية العلمانية للدولة، ومشروع عقد صفقة السلام مع إسرائيل. وهنا يجب التفتيش عن المصالح الاقتصادية والسياسية لما وراء هذا التغيير بالنسبة للبرجوازية كطبقة موحدة في السودان، وخاصة اذا عرفنا ان جناح من الطبقة الحاكمة هي امتداد للنظام الاسلامي القومي كما اشرتم في سؤالكم الذي عاث الفساد والدمار والحرب الاهلية في السودان، هذا الجناح المتمثل بالعسكر ويقوده المجلس السيادي.  اما الجناح الاخر الذي يمثله قوى الحرية والتغيير، وهو تحالف لجناح من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة والذي يتكون من تجمع المهنيين (الصيادلة والمحامين والصحفيين والأطباء والمعلمين والاكاديميين والمهندسين) وحزب الأمة وحزب المؤتمر والحزب الشيوعي السوداني والحركة الشعبية لتحرير السودان-قطاع الشمال وفصيل من حركة تحرير السودان والبعثيين والناصريين، هذا الجناح يقوده عبد الله حمدوك رئيس الوزراء. هذه الازدواجية في السلطة خلقتها انتفاضة الجماهير في السودان. وقد أسقطت الانتفاضة  التي اندلعت ٢٠١٨ نظام البشير في نيسان من عام ٢٠١٩ وأطاحت بحكم الإخوان المسلمين. طبعا لا ننسى بالذكر ان العسكر وعبر الانقلاب العسكري في ١١ نيسان من عام ٢٠١٩ الذي أطاح بالبشير، كان يبغي انقاذ سلطته العسكرية واعادة سيناريو السيسي او انقلاب العسكر في مصر  عام ٢٠١٣ والالتفاف على الانتفاضة كما فعل العسكر في مصر. إلا أن الانتفاضة استمرت وأرادت تنحية العسكر ولم تنطلي عليها اللعبة، وتحت ضغط الانتفاضة الجماهيرية العارمة، ففي شهر كانون الاول من نفس العام أبرمت اتفاقية بين العسكر وقوى الحرية والتغيير في تأسيس حكومة  مناصفة التي عرفت بالحكومة الانتقالية. وعلى الرغم مما آلت اليها الانتفاضة إلا أنها فتحت افاق جديدة امام الجماهير السودانية من اجل تحقيق الحرية والمساواة  والسلام والتي عبرت عنها بشعارات (الدولة المدنية، الحرية-السلام- العدالة).

ومن هنا يجب النظر الى مشروع العلمانية من زاوية مصالح كل المشاركين بالانتفاضة السودانية. فثلاثة عقود من الحكم-القومي الاسلامي، أثبتت فشله، ولم ينتج عنها غير حرب اهلية. فالنظام السابق ومن اجل توحيد السودان بالحديد والنار، رفع شعار الجهاد الاسلامي وبلغة قومية التي حملت ثنائية متناقضة وهي وحدة السودان القومية وحكم الشريعة الاسلامية في بلد تسكنها إثنيات مختلفة ويتحدثون بعشرات اللغات، ولم يخلق المشروع الإسلامي-القومي إلا المزيد من تفتت السودان كبلد موحد. وكانت نتيجة الجهاد الإسلامي لتوحيد السودان تأسيس دولة جنوب السودان يقطنها غالبية مسيحية وعاصمتها جوبا عام ٢٠١١ ، وايضا افضى المشروع الإخواني الى حركات مسلحة اخرى تسمى اليوم حركات الكفاح المسلح وهناك الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال هذا اضافة الى نزاعات وحركات مسلحة  اخرى في دارفور. أي أن الحرب والفوضى اضافة الى الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة السودانية التي سيطر عليها الإخوان المسلمون هو نتاج مشروع الجبهة الاسلامية القومية التي كانت يقودها حسن الترابي ووقفت خلف نظام البشير لتحقيق ما سماه ب”المشروع الحضاري”، وهو مشروع الحرب الاهلية والاقتتال وعشرات الزنازين للمعارضين السياسيين والاختطاف القسري والاعدامات.

الانتفاضة السودانية قلبت المعادلة السياسية والاجتماعية، وكما في كل الثورات والانتفاضات تحمل مطالب عامة ومنها مطالب ديمقراطية وتشترك جميع الشرائح الاجتماعية والطبقات فيها، وكل واحدة تتعقب مصالحها، فان جناح من الطبقة البرجوازية شاركت فيها وبفعالية في الانتفاضة ولديها مشروعها السياسي وله رؤية سياسية من أجل انتشال السودان كمجتمع و كبلد وسوق عظيمة حيث تعتبر ثالث دولة مساحة في افريقيا، تأهل ويعاد ارتباطها بالسوق الرأسمالية العالمية. وان الطريق لهذا المشروع هو خلق الاستقرار السياسي وانهاء التشرذم والصراعات السياسية والعسكرية وعبر مشروع يوحد السودان. ولكن اذا ما كان مشروع الهوية العلمانية يعيد اللحمة الى السودان وتعرف البشر فيها بهوية المواطنة مقابل التخلي عن حق التقرير المصير او تفتيت السودان الى جزء آخر بعد تأسيس دولة جنوب السودان كما جاء في اتفاقية إعلان المبادئ الذي وقع في جوبا بين الحكومة الانتقالية في الخرطوم وحركة تحرير السودان-الشمال، فأن إخراج السودان من عزلتها السياسية وجذب استثمارات عالمية واللحاق بالركب الغربي مختصرا للزمن الذي خسرته من ثلاثة عقود من نظام إسلامي -قومي متخلف، فيأتي عن طريق مشروع السلام مع اسرائيل، الذي اتفقت عليها غالبية القوى السياسية.

الى الامام: هل كان هناك مقاومة من الإسلاميين لمشروع العلمانية والى اي مدى يصل هذا المشروع بحيث تصل الى علمانية جميع مؤسسات الدولة؟

سمير عادل: لابد من القول هناك انسجام سياسي واضح في صفوف الحكومة الانتقالية بشقيها العسكري والمدني تجاه مشروع علمانية الدولة في السودان. وإذا ما وقّع عبد الله حمدوك مع قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان-قطاع الشمال في اديس ابابا على اتفاقية علمانية الدولة وفي حال عدم تنفيذ حكومة السودان المشروع العلماني، فأن حق تقرير المصير مكفول للحركة، فأن توقيع عبد الفتاح برهان رئيس المجلس السيادي على المشروع المذكور انهى كل تمنيات الإخوان المسلمين بإحباط المشروع. طبعا يجدر بالإشارة ان الفرق الوحيد بين إعلان حمدوك واعلان برهان هو التلاعب بالكلمات وعدم ذكر العلمانية في اتفاق الاخير، فقد نص الإعلان الأول بناء دستور يقوم على فصل الدين عن الدولة، مع احتفاظ الحركة بحق تقرير المصير في حال إخفاق المفاوضات في التوصل إلى اتفاق حول المبادئ الموقع عليها، بينما لم  يذكر كلمة (علمانية) بشكل صريح، عندما أشار في البند 2 من المادة الثالثة إلى “تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، وفيدرالية في السودان، تكون فيها حرية الدين والممارسات الدينية والعبادة مكفولة لكل الشعب السوداني، بفصل هويات الثقافة، والجهة، والعرق، ولا تفرض الدولة ديناً على أي شخص، ولا تتبنى الدولة ديناً رسمياً. وتكون الدولة غير منحازة بخصوص الشؤون الدينية وشؤون المعتقد والضمير. وتكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية؛ على أن تُضمَّن هذه المبادئ في الدستور”.  أي بالتحصيل النهائي ليس هناك فرق اذا قلنا ان الدولة علمانية او فصل الدين عن الدولة وبين ليس للدولة دين رسمي.

إن إحدى الخصائص الرئيسية للانتفاضة السودانية هي معاداتها للمشروع الإسلامي على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. إن الانتفاضة فرضت التراجع الكبير على الإسلاميين وكشفت عن جميع جرائمهم، هذا اضافة الى ان المشروع الإسلامي مسؤول عن تمزيق السودان من وجهة نظر جناح من البرجوازية وحتى داخل الاسلاميين انفسهم، فلقد ظهرت اصوات اسلامية اخرى تدعي ان مصلحة البلاد تقتضي بتنحية الشريعة الاسلامية جانبا من اجل توحيد السودان. على هذه الأرضية الاجتماعية والسياسية تشجعت البرجوازية بممثليها السياسيين في المجلس السيادي والحكومة، العسكري والمدني، فذهبت لتضع الهوية الاسلامية للدولة في مهب الريح ، في حين كان عمر البشير يستميت بالدفاع عن هوية السودان الاسلامية أثناء مفاوضاته مع الحركة الشعبية في جنوب السودان التي انتهت بتأسيس دولة جنوب السودان التي تقطنها الاغلبية المسيحية.

طبيعي هذا لا يعني ان القوى الاسلامية في السودان وقفت متفرجة من المشروع العلماني، فقناة (الطيبة) التابعة للإخوان المسلمين وكالعادة تبث من الاراضي التركية وقفت تغرد ضد المشروع العلماني وتنقل تصريحات وبيانات (اتحاد العلماء والائمة او الدعاة) وهو تجمع للقوى الاسلامية الذي يقول بأن مشروع العلمانية هو مشروع غربي لمحاربة الإسلام. وكانت تعول على العسكر في اجهاض المشروع العلماني لهوية الدولة في السودان الا أنها لم تجنِ الا ما زرعتْ طوال ثلاثة عقود من حكمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى