حوار قناة “عالم أفضل” مع توما حميد
الجزء الأول
عالم أفضل: ما هو سر الهزيمة السريعة للحكومة الافغانية امام طالبان؟! إذ تحدثت تقديرات المسؤولين الامريكيين والناتو الى مقاومة الجيش والسلطة القائمة لما لا يقل عن 3 اشهر فيما كانت تقديرات المسؤولين الامنيين الروس (6 اشهر). رغم إن جيش طالبان يصل كحد اقصى الى 75 الف مقاتل، بيد ان الجيش الأفغاني يصل الى 300 الف مقاتل مدرب بشكل جيد ومسلح بمعدات جيدة. زد على هذا، انفقت امريكا 88 مليار دولار من اجل اعداد القوى المسلحة الافغانية …. فما هو تصوركم لهذه الهزيمة السريعة وهذا الانتصار السريع الذي لم تتوقعه طالبان نفسها….؟
توما حميد: ان الحكومة التي نصبتها أمريكا في أفغانستان كانت تمتلك 308 الاف مقاتل على الورق، والجيش مدجج بأحسن الأسلحة الامريكية، وكان لها قوة جوية معتبرة، في حين كانت طالبان تمتلك حوالي 75 الف مقاتل مسلح بأسلحة بدائية نوعا ما. رغم هذا لم يبق للحكومة في أفغانستان إثر في غضون 11 يوم من انسحاب أمريكا.
في الحقيقة ان الجيش الافغاني المنهار كان جيش ينخره الفساد وكان العدد الذي يذكر أي 308 الف جندي مبالغ به، وكانت هناك مبالغة في نوعية التدريب التي تلقاها. فمثل العراق، كان هناك الالاف من المقاتلين الشبح الذين لم يكن لهم وجود. كان يدفع للجندي الافغاني 150 دولار في الشهر، وفي الكثير من الأحيان كان لا يحصل على الراتب. في الأيام الأخيرة، كانت الكثير من الوحدات العسكرية لا يصلها الاكل. والسلطة السياسية كانت أكثر فسادا. ولم يكن للجندي الافغاني أي ثقة بقادة الجيش الكبار او القادة السياسيين.
نشرت صحيفة واشنطن بوست في ديسمبر 2019 وثائق سميت ” أوراق أفغانستان- التاريخ السري للحرب” التي كشفت بان ما كان القادة العسكريون الامريكيون يقولونه في السر حول قوة الجيش وقوات الامن الوطنية الافغانية كان، بالضبط، عكس ما كانوا يصرحوا به في العلن؛ حيث كان المسؤولون في أمريكا يتحدثون باستمرار عن تحقيق تقدم، وهو امر يخالف الواقع.
لقد كَشَفَت هذه الاوراق، اعتمادا على تقرير سري مستند إلى مقابلات أجريت مع عدد من المشرفين على تدريب الجيش الافغاني وقوات الامن الافغانية في 2016، ان القادة السياسيين والعسكريين كذبوا على الأمريكيين بشكل مستمر حول بناء جيش أفغاني قادر على مواجهة طالبان بدون دعم امريكي، وقاموا بالتلاعب بالمعطيات حتى يبينوا بان أمريكا كانت تحقق تقدم وتنتصر في الحرب. اذ اكد هذا التقرير على ان الجيش الافغاني كان غير كفوء وينقصه الحافز ولن يحارب. كما أشاروا الى ان قادة الجيش كانوا يستلمون رواتب لآلاف الجنود الشبح، غير الموجودين. لم يعبر أحد من المشرفين على تدريب الجيش الذين تم مقابلتهم عن ثقته بقدرة الجيش الافغاني على التصدي لطالبان، دع عنك هزيمتها. يجب ان نعلم بانه قتل 60 ألف من الجيش الافغاني لان الجيش كان غير مدرب بشكل جيد وغير كفوء ويقوده قادة فاسدون. من جهة أخرى، ان ثلث قوات الامن كانوا اما مدمني مخدرات او من طالبان. كما نشر الصحفي الأمريكي مايكل تريسي مقابلة في شهر تموز من هذه السنة مع محارب قديم في الجيش الأمريكي من المشرفين على تدريب الشرطة والجيش قال ان بناء الجيش والشرطة الافغانية كانت مجرد عملية لتحويل الأموال الى جهات معينة وخسارة المعدات.
هناك مسائل لعبت دوراً مهماً في هزيمة الجيش الافغاني أهمها هو غياب العقيدة. بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، تمكنت حكومة نجيب الله الموالية للسوفييت من المقاومة لأكثر من سنتين بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي، رغم كل الدعم الغربي للقوى الإسلامية في أفغانستان ورغم انهيار الاتحاد السوفيتي. من جهة أخرى، تمكن الجيش السوري من مجابهة عشرات المجاميع الجهادية التي تضم مئات الاف من المقاتلين المدججين بأحسن الأسلحة الغربية والتغلب عليها. لولا التدخل الامريكي والتركي، لكان بإمكان الجيش السوري من بسط سيطرته على كافة الأراضي السورية في وقت قصير. لقد حدث هذا طبعاً بمساندة روسيا، ولكن لولا رغبة الجيش السوري في المقاومة، لما تمكنت روسيا من تغيير الواقع.
ان السبب هو ان لجيش نجيب الله او جيش سوريا او لجيش فيتنام الشمالية وجيش فنزويلا الذي وقف ضد محاولات أمريكا تنصيب غوان كوايدو رئيسا للبلاد عقيدة وهوية. ان مسالة العقيدة والهوية هي مسالة حيوية بالنسبة للجيش، بغض النظر عن اتفاقنا او معارضتنا لهذه العقيدة والهوية. لم يكن للجيش الأفغاني الموالي لأمريكا أي عقيدة. لقد كان جيش لحكومة عميلة كارتونية اقرب الى مرتزقة.
من جهة أخرى لم تنجز الحكومة الأفغانية مكاسب بحيث يشعر الجنود الافغانيين انها تستحق التضحية من اجلها.
عالم افضل: هل يمكن اعتبار الامر هزيمة ام مقتضيات استراتيجية لأمريكا؟ مقتضيات استراتيجية بمعنى إن احتلال امريكا في 2001 كان مرتبطا باستراتيجية “النظام العالمي الجديد”، (ترسيخ مكانة امريكا كزعيمة اوحد لعالم ما بعد الحرب الباردة)، فيما إن الانسحاب الاخير مرتبط باستراتيجية اخرى، بوضعية اخرى الا وهي مجابهة الصين وروسيا… اي يعترض البعض وفي مقدمتهم الساسة الامريكيون بانه لماذا هزيمة؟! الاوضاع تغيرت، تغيرت الاستراتيجية. لا أكثر! ماذا تقول بهذا الصدد؟
توما حميد: ليس هناك شك بان الطريقة التي انتهى اليه التدخل الأمريكي في أفغانستان هي هزيمة ثقيلة لأمريكا. انا لا اقصد بان أمريكا خسرت المعركة مع طالبان عسكريا، او هزمت نتيجة نضال جماهيري ثوري، ولكنها انهزمت في النهاية، وخاصة من الناحية السياسية لان مشروعها وصل الى طريق مسدود.
نحن نعرف بانه تغيرت استراتيجية أمريكا منذ عهد أوباما حيث كانت هناك رغبة بالتوجه الى الشرق، الى اسيا، والذي يعني مواجهة الصين ومنع صعودها، وكانت هناك خطة لتقليص التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، ولكن هذا لا يعني بان ما حدث في أفغانستان هو ليس هزيمة مريرة بالنسبة لأمريكا. كما قلنا، هناك ادلة كشفت عنها ما سميت بأوراق افغانستان بان الطبقة الحاكمة في أمريكا كانت على علم بان تدخلها في أفغانستان لم يكن له مستقبل وكان مشروعها سينهار، وتنهار الحكومة التي نصبتها، ولكن تمنوا ان يحدث هذا الانهيار بشكل اخر.
لقد كانت خطة أمريكا هي ان تنسحب من أفغانستان، وان تستطيع الحكومة التي نصبتها من المقاومة لفترة معينة، سنة او سنتين مثلا وعندما تنهار وتصل طالبان الى الحكم، لا يحسب هذا الامر على أمريكا، ولا ينظر اليه كهزيمة لأمريكا، ولكن انهيار الحكومة في غضون أيام جعل هزيمة أمريكا وانتصار طالبان امرا واضحا لا يمكن انكاره. يعتبر ما حدث هزيمة في نظر الطبقة الحاكمة وممثليها في أمريكا. هناك شعور قوي في صفوف النخبة في أمريكا بانها خسرت الحرب في أفغانستان.
لقد كان الهدف المعلن في بداية حملة أمريكا على أفغانستان هو الإطاحة بطالبان وتدمير القاعدة والجماعات الإرهابية. بعدها انخرطت أمريكا في إقامة نظام موالي لها بشكل فوقي وبتغطرس منقطع النظير. في النهاية انسحبت أمريكا ووصلت طالبان الى الحكم، ولا نعرف فيما اذا كان أفغانستان ستصبح مسرح لتجمع داعش والقاعدة وغيرها من القوى الإرهابية في وقت ان أمريكا صرفت 2.26 ترليون دولار على هذه الحرب، أي 300 مليون دولار يوميا لمدة عشرين سنة، هذا عدا الخسائر البشرية. بالطبع هناك فرق بين القوى التي هزمت أمريكا في فيتنام، التي كانت قوات جماهيرية تقدمية وبين القوى التي هزمت أمريكا في أفغانستان، اي طالبان التي هي قوة السيناريو الأسود، ولكن بالنسبة لأمريكا هناك شبه كبير بين سقوط سايغون وسقوط كابول.
من وجهة نظر حلفاء أمريكا أيضا يعتبر ما حدث هزيمة نكراء. يعتبر هذا حدث يقلل من مصداقية أمريكا؛ اذ تُعتبر حليفا لا يمكن الوثوق به. لقد وجدت دول الناتو نفسها في ورطة وفي وضع لا يحسد عليه عندما يتعلق الامر بإجلاء رعاياها والافغان المتعاونين معها، كما تخلت امريكا عن الحكومة الأفغانية. وإن هذا يؤدي الى نمو الشك في صفوف الدول والقوى التي تربط نفسها بأمريكا وتعتمد عليها لحماية امنها مثل تايوان بمواجهة الصين، كوريا الجنوبية واليابان بمواجهة كوريا الشمالية ودول الخليج بمواجهة إيران. لقد سارعت الجريدة الرسمية للحزب الشيوعي الصيني بتذكير تايوان بان لا تضع ثقتها في أمريكا وتربط مصيرها بسياسات امريكا. من وجهة نظر أعداء أمريكا مثل كوريا الشمالية وإيران وغيرها تعتبر هذه هزيمة أيضا، اذ يصعب على امريكا التورط في حرب كبيرة على المدى القصير، وهذا سيقوي ساعد هذه الدول في مواجهة أمريكا وسياساتها.
تعتبر الاحداث الأخيرة في أفغانستان بالفعل كارثة إنسانية. ان وقوع مجتمع من 40 مليون انسان في 2021 تحت حكم قوة تعود بكل معنى الكلمة الى القرون الوسطى هو حدث يبعث على الاكتئاب فعلاً. ان اقتدار طالبان في أفغانستان هو اقتدار للرجعية في كل المنطقة، ولابد ان يكون له عواقب سلبية في المستقبل القريب. لقد فرض الاحتلال الأمريكي أيام عصيبة على المجتمع الافغاني؛ حيث قتل حسب الاحصائيات الرسمية أكثر من 110 الاف من الأفغان. كانت الحكومة الدمية التي اقامتها أمريكا فاسدة الى درجة خيالية وغير فعالة ولم تقدم الكثير للمواطن الافغاني وكانت رجعية تجاه النساء. ولكن رغم هذا يعتبر وصول طالبان الى الحكم حتى بالمقارنة مع الاحتلال وحكومته العميلة، شيء سلبي للغاية. ان وصول طالبان الى السلطة شيء كارثي خاصة بالطريقة التي حدث بها، حيث تم اهداؤها نصر واضح سوف تستفاد منه لإخضاع المجتمع. ومن الناحية العسكرية لقد استولت على آلاف المركبات العسكرية وعشرات الطائرات.
ولكن هذا لا يعني بأنني كنت مع استمرار الاحتلال الأمريكي. الانسحاب الأمريكي كان لابد ان يحدث، والنتيجة كانت ستكون كارثية متى ما حدث هذا الانسحاب. لا يمكن لأمريكا كقوة محتلة يستند تواجدها على اعمال القتل والتدمير ان تصبح قوة تحمي السكان في أفغانستان. ان كل الادعاءات حول حقوق الانسان وحقوق النساء والديمقراطية هي هراء، فهم من خلق طالبان والقاعدة وكل القوى الرجعية في أفغانستان وهم من دمروا مدنية المجتمع الافغاني التي حققها حتى 1992.
بنظري ان استمرار الاحتلال الامريكي يعني ادامة وضع غير طبيعي ويعني استمرار الرجعية والتناقضات التي يأتي بها الاحتلال الأمريكي في كل مكان تدخلت فيه أمريكا. الاحتلال يعني منع المجتمع من حسم الأمور والمشاكل والتناقضات بشكل من الاشكال. ففي دولة مثل أفغانستان، يصبح التواجد الأمريكي كاحتلال القضية الرئيسية التي تجعل كل القضايا الأخرى ثانوية.
كان بالإمكان ان يكون لأفغانستان مستقبل اخر لولا قيام امريكا بتهميش القوى التقدمية والعلمانية في المجتمع والاعتماد على أكثر العناصر والقوى رجعية في المجتمع لبناء نظام تعددي-بلورالي مغرق في الرجعية والفساد وعدم الكفاءة بدأ من مجلس الاعيان “لويا جركا” انتهاءً بنظام أشرف غني. لا يمكن بناء دولة مؤسسات وجيش نظامي من القوى الرجعية المتخلفة التي تراهن عليها أمريكا.
ان الذي منع أمريكا من النجاح في أفغانستان هو كونها قوة ايدولوجية بدرجة كبيرة وأيدولوجيتها الحالية بخصوص السياسة الخارجية تستند على معاداة كل ما هو علماني، وتقدمي واشتراكي وشيوعي. لذا ففي الوقت التي تتفاوض مع قوة رجعية مثل طالبان، تفرض حصار على كوبا منذ 60 سنة رغم إنجازات كوبا في مجال حقوق المرأة والصحة والتعليم. تجد ان حكومة مادورو في فنزويلا تتوسل لإجراء مفاوضات مع المعارضة وامريكا، وحكومة مادورا مستعدة لتقديم التنازلات، الا ان أمريكا ترفض كل هذه المساعي وتصر على فرض اشرس حصار على جماهير فنزويلا وعلى الإطاحة بحكومة مادورو.