المقالاتفارس محمود

عقارب الساعة لاترجع للوراء…!

فارس محمود

(رد على سؤال لرفيق حول “دعم الصناعة الوطنية”)

رفيقي العزيز عمار ماهر.. تحية طيبة… حول سؤالكم المتعلق (ما سبب امتناع الشيوعية العمالية عن دعم الصناعة الوطنية؟) اود ان اورد ملاحظاتي هنا….

ولكن قبل هذا انت اعطيتني اسبوع للرد، ومن الواضح ان هذا الاسبوع “طوّل” قليلاً. اعتذر عن ذلك. انها كثرة المشاغل، والا فالموضوع الذي تتحدث عنه جدي بحد كبير. 

بدءاً، ان الهدف النهائي للشيوعيين هي ليست “زيادة التشغيل” ولا “مليء البلد بالمصانع” ولا “بتشغيل اكثر مايمكن من الايدي العاملة”. ان هدف الشيوعيين هو ارساء عالم افضل. ان ماهو عائق امام ارساء عالم افضل هو الراسمالية ذاتها. بازاحة الراسمالية وانهاء الملكية الخاصة والعمل الماجور، يمكن تامين ارساء هذا العالم. لان ماينقص سعادة وحرية ومساواة البشر، وما هو حائل امامها هي علاقات الانتاج الراسمالية وحسب، وليس “عدد المصانع” او “تشغيل الايدي العاملة” او كون الصناعة “وطنية” ام “غير وطنية” والخ.

العراق بلد راسمالي، وتسيّره قوانين الراسمالية العالمية والتقسيم العالمي للانتاج. اي ان الراسمالية العالمية، وبالاخص مؤسساتها الدولية العملاقة، وبالاخص في عراق اليوم التابع والمشدود بالف وثاق ووثاق بهذه المؤسسات، وضمن خريطة التقسيم العالمي للانتاج، فان محور الدور الانتاجي للعراق هو انتاج وتصدير النفط للاسواق العالمية. فيما تكون مهمة ودور بلدان اخرى هو انتاج القطن، القمح، الذهب، الشاي، الحديد وهلمجرا. (ارسلت لك قبل ايام خريطة توضح هذا الامر على صعيد افريقيا). يعني ان الراسمالية العالمية ومؤسساتها العابرة للقارات تحدد “دور” و”مساهمة” كل بلد في الانتاج العالمي. ولهذا، فان “حل المصانع” الجاري في العالم كله هي سياسة السوق الحر بهذا الاتجاه. لا حاجة لمصانع الاسمنت، النسيج، الحديد،  وغيرها في العراق لانها من “مسؤولية” مناطق اخرها تزود العالم باسعار ارخص بكثير. وكذلك الحال على صعيد الزراعة، يشتكي المزارعون العراقيون من انهم لايستطيعوا ان يستمروا دون دعم الدولة، دعم الدولة يعني تخصيص جزء من ثروات المجتمع كي ينتجوا وكي يربحوا ويتعاظم راسمالهم (وهذا هو هدفهم، اذ لايهمهم الانتاج للمجتمع بقدر الارباح) مقابل تقديم بضاعة قد تصل من بلدان اخرى بشكل ارخص. اي انهم يريدون دعم الدولة للراسمال والراسماليين باموال المجتمع، وبالتالي يتعقبون مصالح الراسمال،  وليس لهذا ربط بمصالح المجتمع، لان السلعة تاتي للمجتمع بكل الاحوال، وفي اغلب الاحوال باسعار ارخص.  

ولهذا، فانه طالما تسير وفق منظومة الانتاج الراسمالي، وهي منظومة اخطبوطية عالمية وعلى راسها منظمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها، فلا تستطيع ان تخرج من هذا الاطار المحدود والمفروض. العودة الى القطاع العام وراسمالية الدولة؟ هذا النموذج الذي كان فعالاً وذا نتائج كبيرة من ثلاثينيات القرن المنصرم لحد سبعينياته، بيد انه، وبفضل التقدم التكنولوجي، عجز عن لعب حتى ولو جزء قليل من دوره، وفي الحقيقة، لقد فشل هذا الانموذج، وليس بوسعه ان يكون سبيلاً.

اما لماذا لاندعم الصناعات والمصانع المحلية؟! “دعم الصناعات والمصانع” تعني العودة للقطاع الراسمالي العام، راسمالية الدولة، وهو انموذج لايمكن العودة اليه. لان نتيجته لاتتعدى سوى الخراب والدمار الاقتصادي. لماذا؟! لان بفضل التطور التقني والتكنولوجي للصناعات، اصبحت كلفة السلع اقل كثيرا. ولهذا نشهد اغراق الاسواق ببضائع رخيصة جدا مما لو كانت “الصناعة المحلية” قد قامت بها. ولهذا ليس بوسع القطاع العام ان ينافس مع القطاع الخاص. ولهذا تركت البرجوازية هذا النموذج لتتخذ غيره.  

في الحقيقة، ماذا تعني كلمة “دعم” في عبارة “دعم الصناعة الوطنية”؟! تاييدها؟ ولكنها ستنتج بضاعة اسعارها تفوق كثيرا اسعار البضاعة القادمة او المستوردة؟! الافضل بالنسبة للمجتمع ان يستوردها ام ينتجها بكلفة اعلى كثيرا؟! ان يقصد احد بالدعم هو “الدعم المالي”، يعني تخصيص اموال المجتمع، الاموال التي من المفترض ان تكون اموال لفرح وسعادة وخير المواطن، ونحولها في جيوب راسماليي الدولة حتى ينتجوا، وان يكن باسعار اعلى، ولكن لاباس طالما هي “وطنية”. ومثلما ذكرنا دائماً ان مشكلتنا ومشكلة العامل هي ليست “وطنية” البرجوازية او”غير وطنيتها”، “محلية” ام “اجنبية”، المشكلة مع البرجوازية نفسها.  لا اعتقد ان هذا خياراً بالنسبة للشيوعيين. ولماذا نقوم بهذا؟ ماهي الفائدة المرتجاة من ذلك؟! 

ان “دعم الصناعة الوطنية” كان دوماً دعاة القوميين، الوطنيين، ومن ضمنهم اليسار القومي. لان كل هم هؤلاء هو ان يكون البلد “صناعي”، “متقدم صناعياً”، بلد يذكر اسمه بين البلدان المتقدمة (اي صناعيا). ان هذا همه، اي ان يكون بلده، قل راسماليته، بين البلدان التي يشار لها بالبنان. ومن هناك، كلما تتعاظم مكانة بلده، راسماليته، سيكون له مكانة اكبر على صعيد السياسة العالمية و”القرار” العالمي، على الاقل طرف لايمكن ان يهمله الاخرين او لايعيروا مكانة له. انه طرح اؤلئك اليساريين الذين ينشدون جر بلدهم من التخلف الى التقدم. 

   انظر الى هذا المقطع المعبر لماركس وانجلس في البيان الشيوعي:

“فهي ( أي البرجوازية) الأولى، التي بيَّـنت ما يستطيع النشاط الإنساني إتيانه. فأتت بعجائب تختلف كليا عن أهرامات مصر، والأقنية الرومانية، والكتدرائيات القوطية، وقامت بحملات تختلف كليا عن الإجتياحات والحملات الصليبية..

والبرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك، كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم، بدون تبديل، الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. وهذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية، والقلق والتحرك الدائمان، هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور. فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات وأفكار قديمة موقّرة، تتفكك كلها، وكل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده، والتقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء، وكل ما هو مقدّس يدنّس، والناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة.

والبرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، تـشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها، وتـُرغم البرابرة الأكثر حقدا وتعنتا تجاه الأجانب على الإستسلام، وتجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. وبكلمة هي تخلق عالما على صورتها..

فالبرجوازية، في غضون سيطرتها الطبقية التي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن، خَلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السابقة كلّها مجتمعة. فالآلة، وإخضاع قوى الطبيعة، واستخدام الكيمياء في الصناعة والزراعة، والملاحة البخارية، وسكك الحديد، و التلغراف الكهربائي، واستصلاح أراضي قارّات بأكملها، وتسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة، وبروز عوامر كاملة من الأرض – أيّ عصر سالف كان يتصوّر أنّ مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعيّ؟”

“ان الاسعار الرخيصة للسلع هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الاسوار الصينية”، مع التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تمتلكه البلدان الامبريالية العالمية، او في الحقيقة جرائه، غدت السلع ارخص، والجميع في تسابق من اجل “ترخيص” بضاعتها من اجل ان تجد اسواق اوسع واكبر. هذه التقنية لاتمتلكها بلدان دعاة “دعم الصناعة الوطنية”، ولهذا لاتستطيع ان تتنافس وتزيح السلع نفسها، المستوردة، من سوق بلدها، فمابالك بالمناطق الاخرى؟! وفشلت في كل انحاء العالم، او بالحقيقة انها خطوة معاكسة للتيار ما يسمى “السياسات الحمائية”، والتي يقوم بها مثلا ترامب اليوم في امريكا، ومصيرها الفشل التام.  ومن مصلحة المواطن، قل غريزته، وبالاخص في اجواء الفقر والجوع والبطالة السائدة اليوم في العالم وليس في العراق فحسب، ان يشتري بضاعة ارخص. في اي بلد انتجت، ليست قضيته. المهم هو رخص البضاعة حتى يستطيع ان يحافظ على محفظته لابعد يوم ممكن من الشهر. 

يطرحها البعض هذا من زاوية تشغيل العمال. ان المجتمع القائم هو مجتمع راسمالي، تسيّره مصلحة الراسمال وحسب. ومصلحة الراسمالية الاولى والاخيرة هي الربح. اي شيء خارج هذا لاقيمة له عندها. لاتشغيل العمال، لا البطالة، لا البيئة، ولا اولويات المجتمع ولا…. غيرها. هذا الربح الذي من اجله  الراسمال على استعداد ان تركب اعتى موجه حتى لو يؤدي به الى القاء حتفه. تشغيل العمال، بمعنى ما، ليست مسالتنا الاساسية. اذ هذا الامر ليس بيدنا، تتحكم به الراسمالية بالاخص في ظل توازن القوى الطبقي القائم مابين الطبقة العاملة والراسمالية المعاصرة. ان هذا امر تتحكم به البرجوازية وحاجاتها في كل لحظة، اي مقتضيات الراسمال وتناميه. ولكن مسالتنا الاساسية التي ينبغي ان توضع على طاولة المجتمع فوراً وعلى اجندة الطبقة العاملة هي: ضمان بطالة مناسب وكاف. 

يوميا ترمي الراسمالية بمئات الالاف الى جيش البطالة. هناك مهن عظيمة في طور الاندثار، ويوميا تتحفك الصحف بان المهنة الفلانية على وشك الاندثار جراء التقدم التكنولوجي، على سبيل المثال البريد، المطابع بما تضمه من ملايين العمال. ومن لاتندثر تقلص الايدي العاملة فيها الى حد كبير. التقارير الدولية تتحدث عن ان 250 مليون فرصة عمل ستزول خلال عقد من الزمن.  اذن مالعمل؟! العمل هو تاكيدنا، وتاكيد الناشطين والقادة العمال على مطلب: ضمان بطالة مناسب ولائق. تهيكلون الاقتصاد ام لاتهيكلوه هو امركم ومقتضيات تنامي راسمالكم وارباحكم، ولكن ماهو خط احمر هي حياتنا وامننا الاقتصادي ومستقبل اطفالنا! هذه هي رسالتنا الواضحة للراسماليين في العراق وفي كل مكان.       

ان “دعم الصناعة الوطنية” هو طرح مضلل عبر الاستناد الى كلمة “وطنية” القومية والاحاسيس والمشاعر القومية. ليس لي اي تعاطف مع هذه المفاهيم، وعلى العكس من ذلك اننا في نضال جدي ضدها، بوصفها افكار معادية للعمال. ان “دعم الصناعة الوطنية” هو طرح اقسام منهارة من الراسمالية. ان عقارب الساعة لاترجع للوراء.

في الختام، اشكرك على دعوتي للرد على هذا السؤال، وان يكن بايجاز في موضوع كبير ومتشعب… واتمنى لك الموفقية والسعادة…

كلي اذان صاغية لسماع اي اراء وافكار حول هذا الموضوع القيم….

تحياتي ومحبتي

فارس محمود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى