ليس هناك شك بان انتفاضة أكتوبر بكل مظاهرها التقدمية والمدنية ورفضها الواضح للسلطة السياسية في العراق، قد وجهت ضربة جدية لمكانة الإسلام السياسي في العراق وخاصة الجناح الموالي لإيران. لقد بينت بان المجتمع العراقي رغم كل ما مر به من حروب وحصار وحملات الأسلمة ومحاولات فرض التقاليد والقيم والمظاهر الطائفية والعشائرية والقومية الرجعية، بعيد جدا عن الحركات الإسلامية والقومية، والعشائرية وقيمها وتقاليدها. لقد وضحت بشكل عملي بانه مجتمع يتوق الى الحرية والمدنية والحياة المعاصرة. ان الرفض للإسلام السياسي وخاصة الحركات الموالية لإيران ليس لأنها غريبة عن الحياة المعاصرة فحسب، بل لأنها اثبتت معادتها للإنسان ولكل ما هو انساني واثبت فشلها في إدارة المجتمع وفرض أي نوع من الأمان ومن الحياة المدنية الطبيعية. في مثل هذه الوضعية يفترض ان يكون من السهل على التيار المنافس حسم السلطة لصالحه وتهميش جناح الإطار التنسيقي، ولكن هذا لم يحدث بل يبدو ان الاطار التنسيقي لايزال قوة في صراع القوى الرجعية في العراق. من الواضح بان الصراع السياسي لن يحسم ولن يفرض نوع من الاستقرار في العراق في الوقت الحاضر. ان السبب الأساسي هو ان هذا الصراع مرتبط بصراع عالمي واقليمي كبير وشرس. اذ يقف وراء جبهتي الصراع في العراق قطبان عالميان هم في صراع مرير. ان ما يعقد الامر هو ان الجناح الموالي لإيران يقف ورائه قطب هو في مرحلة صعود، في حين ان القطب الغربي هو في ازمة وفي طور التراجع. ان الأشهر القليلة القادمة ستكون حاسمة في الصراع العالمي. هذه هي الفرصة الأخيرة امام الغرب لوقف مسار بروز عالم متعدد الأقطاب. ان الحرب في أوكرانيا والحرب الاقتصادية بين روسيا والغرب دخلت مرحلة حرجة. يجب ان ينتصر أحد الأطراف، اذ لم يعد هناك فرصة للتراجع. ان هدف الغرب من اشعال الحرب في أوكرانيا كان توريط روسيا في حرب وهزيمتها عسكريا، وخلق فرصة لتدمير اقتصادها من خلال حصار اقتصادي محكم وحتى تغير النظام فيها، ولكن يبدوا ان هزيمة روسيا في أوكرانيا رغم كل جهود الغرب في دعم أوكرانيا بالكادر العسكري والمرتزقة، والمعلومات الاستخباراتية والأسلحة والأموال كان صعباً. ان ميزان الصراع العسكري يميل لصالح روسيا رغم بطئ التقدم الذي تحرزه حيث تمكنت لحد الان من افشال والتصدي والتأقلم مع كل الذي يأتي به الغرب في أوكرانيا بدون التورط في حرب مباشرة مع روسيا. وفي الوقت الذي بين الاقتصاد الروسي متانته ومرونته، نتيجة تحقيقها اكتفاء ذاتي في الطاقة والغذاء، تغوص اوروبا في ازمة اقتصادية عميقة، نتيجة قلة مصادر الطاقة ويبدو ان المستقبل القريب قاتم اذا لم يتم دحر روسيا وهو امر مستبعد. لم تتمكن اوروبا من ضمان مصادر الطاقة. رغم كل الذي يقال لا قطر ولا الجزائر ولا فنزويلا ولا أمريكا وغيرها بإمكانها سد الفراغ الذي خلقه قطع الوقود الاحفوري الروسي وخاصة الغاز عن اوروبا. لقد ارتفعت أسعار الطاقة في الغرب بمعدلات خرافية، وبدأت الكثير من الشركات بالإفلاس، وبدأت الحكومات بإنقاذ وتقديم الحزم المالية للأفراد والشركات لمواجهة ازمة الطاقة وهناك حديث جدي عن تقنين استخدام الطاقة وهي كلها أمور ستجعل مسألة التضخم أسوء وسوف تدمر الصناعة الاوربية. لقد بدأت موجة من الاعتراضات في مختلف الدول الاوربية وهناك بوادر ازمة سياسية في الغرب نابعة مما تسمى ب ” ازمة تكلفة المعيشة”. اذ اجبر بوريس جونسون في بريطانيا على الاستقالة وانهارت حكومة دراخي في إيطاليا وهناك ازمة حكومة في استونيا وبلغاريا وحتى في المانيا وفرنسا وغيرها، والازمة آخذة في التعمق.
لقد أراد الغرب تغير النظام في روسيا وحتى تفتيتها، الا ان تغير النظام يحدث في الدول الاوربية. وقد فشل الغرب أيضا من حشد تأييد الدول خارج ما يسمى بالعالم الغربي بالإضافة الى حفنة صغيرة من الدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية ضد القطب الروسي-الصيني.
لذا فان الغرب يُصعّد من دعمه للجيش الاوكراني بما فيه تزويده بكل اشكال الأسلحة المتطورة مثل انظمة هايمارس والطائرات المسيرة وهناك حديث عن تزويده حتى بطائرات اف-15 وغيرها على امل إطالة الحرب وايصال روسيا الى مرحلة ينفذ عندها العتاد الحربي وحتى الجنود. ولكن في الواقع ان مخزون الغرب من السلاح هو الذي قد ينفذ. ومن الناحية الاقتصادية فرض الغرب الحزمة الثامنة من إجراءات الحصار وهي تتمثل بوضع سعر الحد الأقصى على الغاز الروسي وهو اجراء رمزي لان روسيا قررت وقف تدفق الغاز الى اوروبا بحوالي 90% أصلا والدول الأخرى مثل تركيا والصين والهند وحتى دول منظمة اوبيك مصرة على عدم المشاركة والالتزام بالسعر الذي يحدده الغرب لان هذا سيشكل سابقة خطيرة حيث سيمكن الغرب كزبون للوقد من تحديد الاسعار.
هنا تأتي مكانة ودور إيران. فينما بإمكان إيران فقط في سد قسم مهم من النقص في امدادات النفط والغاز وبالتالي المساهمة في خفض الأسعار، الا ان القيادة الإيرانية رغم رجعيتها الا انها قيادة محنكة وسوف لن تفرط بسرعة بعلاقاتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا. ولهذا ففي الوقت الذي يود الغرب التوصل الى اتفاق حول الملف النووي بأسرع وقت، تضع إيران عراقيل وتفرض شروط وتطمح الى تحقيق مكاسب مقابل الغرب. ان إيران دولة أساسية في القطب الروسي-الصيني ومكانتها في صعود اذ أصبحت عضو بكامل العضوية في منظمة شنغاي وهي في صدد الالتحاق بمنتدى بريكس وهي تبرم اتفاقات اقتصادية هائلة مع الصين وروسيا. ان صعود مكانة إيران يقوي التيار الموالي لها في العراق أي الإطار التنسيقي في الصراع الرجعي الحالي، رغم الرفض الشعبي العارم له. لهذا فان الصراع الرجعي في العراق لن يحسم في المستقبل القريب. ان الجماهير وخاصة الشباب المتوهمين بطرفي الصراع الحالي وخاصة التيار الصدري او التي اجبرتهم الظروف للالتحاق بهذه الاطراف سوف، يصبحون أما وقود لهذا الصراع الرجعي او في أفضل الاحول ستكون خيبة الامل حصتهم. ان مستقبلهم ومستقبل مجمل المجتمع هو في فصل الصفوف عن كلا الطرفين. ان مكانهم هي في الحزب الشيوعي العمالي العراقي والالتفاف حول بديله في تنظيم أنفسهم في مجالس المحلات وامكان العمل والمشاركة المباشرة في إدارة المجتمع وحماية انفسهم وعوائلهم ومحلاتهم من تطاولات كلا الطرفين.