لقد انهارت ثلاثة بنوك أمريكية خلال شهر اذار 2023 وهي “سلفيرغيت بانك” الذي بلغت اجمالي اصوله في الربع الأخير من 2022، 11 مليار دولار و “سيكنجر بانك” الذي بلغت اجمالي اصوله حوالي 110 مليار و ” سليكون فالي بانك” الذي بلغت اصوله في الربع الأخير من 2022 حوالي 211 مليار، وامتلك البنك 342 مليار دولار من أموال العملاء ويحتل المرتبة 16 كأكبر بنك أمريكي.
وهرع البنك المركزي السويسري في الأيام الأخيرة الى حقن بنك “كريديت سويس” ب 54 مليار فرنك سويسري. وهناك بنوك أخرى على وشك الانهيار.
قبل ان نتحدث عن أسباب الازمة الحالية وتناقضات النظام الرأسمالي وتمثيل النظام لمصالح الطبقة الرأسمالية وكيف يتم تحميل الطبقة العاملة عواقب أزمات النظام، نوضح لماذا انهار اكبر البنوك الثلاثة أي “سيليكون فالي بانك”.
من المعروف ان الهدف الأساسي للبنوك هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح. لذا يحاول البنك دفع اقل ما يمكن من الفائدة مقابل الودائع ويقدم القروض مقابل أكبر ما يمكن من نسبة الفائدة. ويمكن للبنك اقراض واستثمار 90% من الودائع في أي لحظة زمنية، اي عليه الاحتفاظ ب 10% بالمئة من اجل مواجهة احتمال ان يقوم نسبة اكبر من الناس بسحب أموالهم من البنك مقابل الإيداع فيه أيا كان السبب.
ان 80% من زبائن هذا البنك كانوا من شركات سيليكون فالي وخاصة الشركات المبتدئة التي تستثمر في قطاع التكنلوجيا. لقد شهد قطاع التكنولوجيا ازمة في الفترة الاخيرة بما فيها عمالقة التكنلوجيا مثل غوغل وامازون وسيسكو وانتيل وابل مما أدى الى تسريح مئات الالاف من العاملين في سيليكون فالي. لقد أدت هذه الازمة الى قلة الودائع المودعة لدى البنك وزيادة في السحوبات من قبل الافراد من اجل تغطية المصاريف اليومية ودفع رهون العقارية الشهرية والشركات من اجل تغطية مصاريفها.
من جهة أخرى لقد قام “سيليكون فالي بانك” باستثمار 100 مليار دولار في سندات الحكومة الامريكية بنسبة فائدة 1.79% لمدة 3-6 سنوات على أساس ان البنك المركزي الأمريكي سوف لا يرفع نسبة الفائدة.
ولكن بسبب التضخم قام البنك المركزي الامريكي برفع نسبة الفائدة بسرعة غير مسبوقة في آخر سنة، ولذلك فان نسبة الفائدة على سندات الحكومة الامريكية هي الان 4% مما يعني ان السندات التي اشتراها هذا البنك بنسبة فائدة اقل قد خسرت قيمتها وكان البنك جالس على خسائر غير محققة، اذ هناك علاقة عكسية بين قيمة السندات ونسبة الفائدة. وبسبب ارتفاع نسبة الفائدة أراد الكثير من المودعين في البنك نسبة فائدة اكبر على وداعهم او سحبها من اجل إيداعها في بنوك أخرى بنسبة فائدة اعلى.
ومع زيادة عدد الذين يريدون سحب اموالهم مقابل قلة الودائع في البنك بسبب زيادة البطالة و الركود في قطاع التكنلوجيا، اضطر البنك الى بيع 21 مليار من الأموال المستثمرة في السندات بخسارة 1.8 مليار. كما قرر البنك بيع اسهم بقمة 2.25 مليار دولار في السوق من اجل تغطية النفقات. وهذا الامر نشر ذعر بين الافراد والشركات التي اودعت أموال في البنك وفقدت اسهم البنك 60% من قيمتها وهرع الجميع الى سحب أموالهم حيث تم سحب اكثر من 42 مليار دولار في اقل من يومين، مما سبب انهيار البنك. بسبب انهيار هذا البنك و كون البنوك الكبيرة مثل جي بي مورغن، كولدمان ساكس، مورغن ستانلي، ستي كروب و ويليز فارغو اكثر امان بحجة انها اكبر من ان تدعها السلطات تنهار يقوم الكثير بنقل أموالهم من البنوك الصغيرة والمحلية الى البنوك الكبيرة وهذا يزيد من احتمال انهيار المزيد من البنوك.
وهناك انقسام حاد في الآراء فيما اذ تم تفادي الازمة الاقتصادية او كون افلاس هذه البنوك بداية لازمة اقتصادية تفوق في حجمها ازمة 2008. ولكن مراجعة سريعة لأسس النظام وتناقضاته تكشف ان النظام الرأسمالي وخاصة بنموذجه الغربي يقف على فوهة بركان وهو في أسوأ مرحلة في تاريخه. فالأحداث الأخيرة تبين بان النظام وصل الى طريق مسدود فيما يتعلق بالتغلب على تناقضاته. ففي القرون الثلاثة او الأربعة من عمر النظام الرأسمالي، كان حتى اشد نقاد هذا النظام يعترفون بقدرته على التأقلم من التغيرات والتغلب على المشاكل وحتى على حل التناقضات. ولكن في العقود الثلاث الأخيرة هذا ليست كما هو الحال سابقا. اذ ليس بإمكان النظام الرأسمالي من حل مشاكله والتغلب على تناقضاته بل كل الذي يقوم به هو تأجيل الازمات ونقلها من ميدان الى ميدان اخر ومن مكان الى مكان اخر.
من اجل ان يحافظ الغرب بقياد أمريكا على مكانته العالمية يحتاج ان يمنع صعود الاقطاب الأخرى وقد اشعل الحرب في أوكرانيا وقام بفرض حصار اقتصادي قل نظيره على روسيا. ولكن كل الدلائل تشير بان أوكرانيا والغرب سوف يخسرو الحرب. كما ان الحرب والحصار يؤدي الى عزل الغرب وتدني الثقة به، بدلا من عزل روسيا. وبدلا من ان يحطم الحصار الاقتصاد الروسي ادى الى اضعاف الاقتصاديات الغربية وتعاظم مشكلة التضخم. من اجل محاربة التضخم، تقوم البنوك المركزية بزيادة نسبة الفائدة ومن نتائج رفع نسبة الفائدة هو انخفاض قيمة السندات اذا ان قيمة السندات تنخفض كلما ارتفعت نسبة الفائدة وبالعكس وهذا هو سبب رئيسي في انهيار هذه البنوك. ويودي ارتفاع نسبة الفائدة أيضا الى قلة النشاط الاقتصادي والركود والمزيد من الأفلسات على مستوى الافراد والشركات والمشاريع الرأسمالية وحتى الحكومات.
ان السلطات مثل الاحتياط الأمريكي والبنوك المركزية الأخرى هي في مازق. ففي 2008 قاموا بمواجهة الازمة من خلال التسهيل الكمي والتي تعني خلق الاموال من لا شيء. ولكن التسعة تريليونات دولار من التسهيل الكمي للاحتياطي الفيدرالي منذ عام 2008 كانت من اسباب التضخم. ان التسهيل الكمي وإنقاذ البنوك المنهارة سوف يفاقم مشكلة التضخم التي هي مشكلة خطيرة جدا، اذا خرجت عن السيطرة قد تؤدي الى فقدان الدولار لمكانه كعملة احتياطية عالمية. من جهة أخرى، ان رفع نسبة الفائدة من اجل مواجهة التضخم يؤدي كما قلنا الى الركود الاقتصادي وانهيار المزيد من البنوك والشركات.
ومن يعتقد إن بإمكان ملايين السياسيين والاخصائيين وخبراء الاقتصاد والمنظرين والمفكرين البرجوازيين حل هذه التناقضات؛ لا يعلم شيئا عن طبيعة هذا النظام.
وقد بين انهيار (سيليكون فالي بانك) كيف ان النظام يخدم الطبقة البرجوازية ويحمي مصالحها ويحمل الطبقة العاملة عواقب ازماته. لم يفِ الرئيس الأمريكي، جو بايدن بأي من وعوده الانتخابية مثل رفع الحد الأدنى للأجور واعفاء الطلاب من الديون الدراسية وغيرها من الوعود بحجة ان هذه الإجراءات سوف تؤدي الى التضخم، رغم ان اعفاء الطلاب من الديون مثلا لا يؤدي الى ضخ المزيد من الأموال الى الاقتصاد بشكل أنى وزيادة التضخم. في حين لم تمر ساعتين على انهار هذا البنك ليعلن الرئيس الأمريكي يوم الاحد، أي في عطلة نهاية الأسبوع بان السلطات الامريكية سوف تضمن حصول المودعين في البنوك المنهارة على أموالهم كاملة ولم تقف مشكلة التضخم عائقا في طريقه.
رغم تأكيدهم بأنه سيتم تمويل التكاليف من خلال الرسوم التي دفعتها البنوك لمؤسسة التأمين الفيدرالية ولن يكون هناك عبء على دافعي الضرائب، الا ان الكل يعرف بأن ما حدث هو انقاذ مالي وتتضمن صرف المليارات من أموال دافعي الضرائب وسوف تخرج من جيب العامل الأمريكي على شكل تضخم وزيادة الأسعار وخفض الخدمات. تبين هذه الاحداث للمرة المليون بان النظام الرأسمالي هو نظام متعفن ومتأزم يخدم مصالح اقلية صغيرة جدا طفيلية على حساب الغالبية العظمى من البشرية التي تستحق نظام اكثر استقرارا وعدالة واستدامة ويخدم حاجات الانسان بدلا من أرباح قلة صغيرة.