بصدد خديعة “من تشرين إلى تشرين”
كذبة سمجة!
يتصاعد الحديث اليوم عن الانتخابات، وتحث وسائل الإعلام العراقية الناس على المشاركة في الانتخابات. ومن ضمن الدعايات الإعلامية، الإشارة الى هذه الانتخابات على إنها امتداد لانتفاضة تشرين! وبالأخص إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مشاركة البعض بوصفهم “تشرينيين”، تلهج بـ”من تشرين (الانتفاضة) الى تشرين (الانتخابات)! وإن “تشرين قد سلّمت رايتها الى تشرين”! يتحفوننا بماذا كان يريد التشرينيون؟! تغيير رئيس الوزراء (عبد المهدي)، تم تغييره! انتخابات مبكرة؟! ها هي انتخابات مبكرة تجري! تغيير مفوضية الانتخابات؟! قمنا بذلك! تغيير النظام الانتخابي؟! غيّرناه! ماذا تريدون بعد؟!
ليس هذا سوى نفاق ورياء وكذب سافر! لم تكن كل هذه “المطالب” ذات صلة بانتفاضة تشرين! ولا بمطالب الملايين التي هبّت ضد السلطة المليشياتية الحاكمة. إنها ليست مطلب ولا قضية أحد. قد تكون مطلب التيار الصدري، ولكنها ليست مطالب الجماهير المليونية. انتفض التشرينيون ضد الجوع، الفقر، البطالة، انعدام الخدمات، انعدام الحقوق والضمانات، الفساد، النهب، الانفلات الامني، غياب الدولة، غياب القانون، الاستهتار المنفلت بقيمة الانسان. انتفضوا ضد أوضاع تُجبر بسببها آلاف العوائل على أكل النفايات، ولجوء عشرات الآلاف من الفتيات والنساء لبيع الجسد والمتاجرة بأجسادهن من أجل إمرار معيشة عوائلهن. هبوا ضد أوضاع ليس مستقبل الشباب غير معلوم فحسب، بل حاضرهم ووجودهم نفسه تحت طائلة السؤال. لا للتعليم والدراسة والشهادة الدراسية معنى! أوضاع يعيش العامل فيها عيشة الكفاف، ولكنه “مترف” بنظر رفيقه العاطل. والعاطل ينشد العمل حتى يصل لوضع العامل المرزي والبائس فعلاً.
هبّت الجماهير من أجل إزاحة هذه السلطة التي لم تجلب سوى المصائب والويلات للمجتمع وإعادتها لجحورها القروسطية والاجرامية التي أتت منها. ولهذا، لا يتعدى شعار “من تشرين الى تشرين” سوى كونها كذبة ممجوجة.
إن ما يتعقبونه من هذه الكذبة واضح جداً. إن البرجوازية طبقة مجربة. ثمة مصلحة سياسية مشتركة بين وسائل الاعلام التي تعكس توجهات لتيارات سياسية في تصوير شخصيات كهذه بانهم “تشرينيون”، “ممثلو تشرين”، وبين هؤلاء “الممثلون” الذين من مصلحتهم ان يشير لهم الاخرون بوصفهم “ممثلين” لحدث عظيم مثل تشرين. للطرفين مصلحة في إشاعة هذه الافكار. كي تقول الطبقة البرجوازية الحاكمة: طويت صفحة تشرين، انتهت تشرين، حققت اهدافها! وإن هؤلاء هم ممثلوها ومشاركون معنا في الانتخابات. هذا غيث التميمي ليس لديه مشكلة، وهذه جماعة “نازل اخذ حقي” او أن تلك الجماعة الفلانية ايضا مع الانتخابات. ها هم ممثلو تشرين يكملون رسالتكم التشرينية بتحسين العملية الانتخابية والانتخابات التي هي السبيل الوحيد لتحسين اوضاعكم. انها خديعة للإبقاء على الوضع القائم ومن اجل وأد تشرين واهداف الملايين المحرومة.
ولكن ثمة مسألة جدية هنا: هل من الممكن ان يكون لتشرين متحدثين باسمها؟
تحدثوا باسمكم أنتم فقط!
يطل عليك يومياً “أشكال وألوان” من المتحدثين باسم تشرين! ما أود قوله هنا هو: ليس من حق أي ما، أن يتحدث باسم تشرين! انه لا يمثل سوى نفسه أو جماعته في أكثر الاحوال، لا اكثر. فحتى لو كان الشخص مشاركاً في كل أيام ولحظات الانتفاضة، لو قام بألف شيء وشيء فيها، فليس من حقه ايضاً أن يتحدث باسمها. فالمشاركة شيء والتمثيل شيء آخر. لم تخولهم تشرين، ولم يخولهم احد بذلك!
إن انتفاضة اكتوبر هي حركة جماهيرية سياسية عامة لقطاعات وفئات اجتماعية واسعة للمجتمع. كما شاركت فيها جماعات ذات تصورات مختلفة وبأهداف سياسية واجتماعية مختلفة. ناهيك عن تدخل التيارات السياسية الحاكمة بأشكال مختلفة وباختراقات سياسية متنوعة من أجل حرف التظاهرات وجرها لآفاقها الخاصة، من أمثال التيار الصدري وغيره. ولهذا، فإنها ليست كيان واحدة حتى تتعامل معها ككتلة واحدة وتمثيل واحد.
“شاركوا كي نهزم الفاسدين”!
يتحفونا بالحديث عن وجوب المشاركة الواسعة في الانتخابات. يبررون الامر بالتالي: لأن في حالة المشاركة المتدنية، ستبقى الاحزاب والتيارات التقليدية التي لها جمهور وتفوز بالانتخابات مرة اخرى! ولهذا كلما زادت مشاركة الجماهير، ستتسع مساحة الرافضين لها انتخابياً، وبالتالي، ستتسع امكانية إزاحتها ومجيء شخصيات نزيهة، “غير فاسدة”، اناس تهمهم الرد على حاجات المجتمع!!
كما بينت التجربة بأجلى اشكالها فيما يخص الرد على حاجات المجتمع، لا الانتخابات ولا مقاطعتها ولا الديمقراطية ولا البرلمان ولا حقوق الانسان هم قناة هذا الامر. جرّب المجتمع هذا الامر لما يقارب 17-18 عام، ومثلما يرى الجميع، لم تكن النتيجة سوى الفقر، الجوع، البطالة، والتدهور المادي والمعنوي المتعاظم للمجتمع.
ان المحاججة المذكورة، وفي الحقيقة الحجة المذكورة، هي حجة دعاة الانتخابات وإيهام الناس بالمشاركة بالانتخابات. يريدون خداع المجتمع وجره تحت هذا المبرر. يستندون الى سخط الجماهير وغضبها الكبير، عن حق، من الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة والاجرامية والمعادية لهم. يتلاعبون بهذا الوتر، ويوظفونه لأهدافهم الخاصة.
بيد ان هذا ليس مبرر كافي لمشاركة الجماهير في الانتخابات. لأنها تحول قضية مستشرية وعميقة ومتجذرة ومتشابكة ومتعددة الابعاد الى مسالة افراد: “نزاهة” او “عدم نزاهة” أفراد!
المجتمع البشري مجتمع طبقات. إن هذا تصوير طبقة تريد تزييف الأشياء وتمريرها على البشر. إنه تصوير طبقة تحيل مواضيع طبقة وطبقات الى “أفراد”. وهذا هو التصوير المخادع الذي نجحوا للأسف في احيان كثيرة بإشاعته وتمريره. مثلاً، لماذا هناك ديكتاتورية؟ لأنه أتى شخص “مجنون”، “مصاب بداء العظمة”، “لا يستمع لأحد”، “مغرور” اسمه صدام او هتلر او بينوشيت…. كل هذا حتى يخفون مصالح الطبقة الحاكمة، البرجوازية، التي تقف وراء مشاريع وخطط الديكتاتوريين.
إن هؤلاء الفاسدين يمثلون طبقة معينة، أناس طبقة معينة ومصالحها الخاصة، البرجوازية، التي تقف بالضد من مصالح الاغلبية الساحقة للمجتمع. يمثلون، بكل قراراتهم، سياساتهم، مشاريعهم… بكل شيء المصالح العامة والنهائية لهذه الطبقة.
“لنشارك بالانتخابات حتى نزيح الفاسدين” (!!). إن هذا وهم وكذبة تهدف الى جر الناس للانتخابات وإقناعهم بالمشاركة. إن سبل وصول الفاسدين معلومة ومؤثرة وقوية و”قانونية” و”شرعية”: شراء الذمم، شراء ذمم شيوخ العشائر، المال السياسي الذي يمتلكوه هم! أذ كيف اتى “الخنجر” للسلطة بسوى المال السياسي المنهوب؟! السلاح بيدهم، لديهم مليون ناخب فقط من القوات الامنية…. هذه آليتهم للوصول للسلطة والحكم والهيمنة على مقدرات المجتمع.
سياسي مستقل و”نزيه”؟! يهضمونه ويبتلعونه! فـ”غير الفاسد” يفسد بهذه العملية. العملية السياسية فاسدة من الاساس! إن اغلب، حتى لا اجزم كل، الذين رشحوا على إنهم مستقلون، لا يستطيعون العيش في هذا المستنقع الا عبر الالتحاق بأحد الطغم المالية والميليشياتية…
لأقل شيء حول موضوعة المستقلين. إن موضوعة المستقلين هي في أغلب الأحيان تكتيك الاحزاب والتيارات المليشياتية الكبيرة التي هي جماعات منبوذة ويحتقرها أغلبية المجتمع وانتفضت الجماهير ضدها, وهي تعرف حق المعرفة حقيقة إذا رشحت شخصياتها الاساسية نفسها، من أمثال المالكي والعامري والخزعلي، فلن ينالوا اصواتاً تُذكر. ولهذا التجأ معظمهم الى طرح او الاتفاق مع وجوه جديدة، تحت عنوان “مستقلين”، تقوم، ما أن تفوز، بالالتحاق بالكتل-الحيتان الكبيرة من مثل دولة اللاقانون، الفتح، سائرون وغيرها.
ليس ثمة سبيل لخلاص المجتمع في العراق وإنهاء مسلسل هذه الأكاذيب عبر الإطاحة بهم مرة وللابد إلا عن طريق انتفاضة ثورية وجماهيرية عارمة.