المقالاتتوما حميد

أولويات النظام الرأسمالي و التحديات التي تواجه البشرية!

توما حميد

قام سكرتير الأمم المتحدة، انتونيو غوتيريش مؤخرا بأطلاق جملة من التصريحات بخصوص الازمة الأوكرانية وتداعياتها اذ قال ” كلنا نرى المأساة تتكشف في أوكرانيا. ولكن خارج حدودها، شنت الحرب هجوما صامتا على العالم النامي”. و”تخاطر الأزمة الأوكرانية بإغراق ما يصل إلى 1.7 مليار شخص ، أي أكثر من خمس البشرية ، في الفقر والعوز والجوع على نطاق لم نشهده منذ عقود”. و ” نحن نواجه عاصفة كاملة تهدد بتدمير اقتصاديات البلدان النامية” و ” في حين يتركز معظم الاهتمام على آثار الحرب على الأوكرانيين ، فإن لها أيضا تأثيرا عالميا ، في عالم كان يشهد بالفعل زيادة الفقر والجوع والاضطرابات الاجتماعية” و “إن عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد تضاعف في عامين فقط من 135 مليون شخص قبل جائحة الفيروس التاجي إلى 276 مليون اليوم” و

“إن العالم يشهد لحظة في التاريخ حيث يواجه أزمات عالمية متعددة ومترابطة، وأزمة ثلاثية الأبعاد من غذاء وطاقة وصراعات عالمية وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ إنشاء الأمم المتحدة”.

ان هذه التصريحات ليست من شخص معادي للنظام الرأسمالي، بل من امين عام واحدة من اهم مؤسساته.  ان احتمال مواجهة خمس البشرية خطر المجاعة وسوء التغذية هو أكبر ادانة لهذا النظام.

بالإضافة الى خطر المجاعة التي يحذر منها انتونيو غوتيريش تواجه البشرية مخاطر أخرى لا تقل خطورة وهي خطر الانهيار البيئي وخطر حروب كارثية.

عكس محاولات قادة الغرب واعلامه في اعطاء تصوير بان كل المشاكل التي تواجه البشرية بدأت من الحرب الأوكرانية والتصرف الارعن للنظام الروسي، الا انه في الحقيقية ان الحرب الأوكرانية لم تكن الا حدث عجل وعمق أزمات النظام. اذ كان النظام يواجه أزمات عميقة قبل 24 شباط 2022 أي يوم الذي بدأ فيه الغزو مثل الازمة الصحية نتيجة الوباء، و مسالة المعدلات العالية للدين والتضخم على المستوى العالمي وخطر الركود الاقتصادي وشحة البضائع وعدم الاستقرار في دول كثيرة وموجات الهجرة وصعود اليمين الفاشي وتوالي الكوارث الطبيعية الخ .

يتوسل غوتيرش بقادة هذا النظام وخاصة في الغرب للقيام بخطوات جدية لمواجهة هذه الازمات المصيرية، الا انهم عاجزون عن اتخاذ أي خطوات جدية في هذا الصدد. وفي الحقيقية ان مواجهة هذه الازمات هي ليست من أولوياتهم حيث يدفعون بأولويات مختلفة جدا.

رغم كل هذه الازمات التي تهدد مصير البشرية، بل حتى مستقبل النظام، تعد مسالة الإطاحة بالمنافسين وخاصة الصين وروسيا الأولوية الأساسية لقادة النظام في الغرب. لقد هددت أمريكا بضرب جزر سلمان التي تبتعد 11625 كلم عن أمريكا إذا وافقت على ايواء قاعدة عسكرية صينية على أراضيها، في حين يصعب على الغرب بقيادة أمريكا تفهم مخاوف روسيا من نشر الناتو قواعده في أوكرانيا التي لها حدود مشتركة مع روسيا. يبدو ان الغرب سعى ونجح في جر روسيا الى حرب بهدف الإطاحة بها كقوة منافسة ليدفع العالم الى هذا النفق المظلم.

بينما تعاني امريكا اليوم من نقص حاد في حليب الأطفال، وتعد مياه الشرب لنصف سكان أمريكا غير صالحة للشرب بسبب الثلوث بمختلف المواد الكيمياوية مثل الرصاص وبينما يعيش مئات الالاف في الشوارع، قام قادة هذا البلد بتحويل اكثر من 50-70 مليار دولار الى أوكرانيا في اقل من ثلاثة اشهر، ليس من اجل مساعدة السكان بل من اجل إطالة الحرب والمعاناة ومن اجل زيادة أرباح شركات السلاح و تحقيق اهداف جيوسياسية. كما خصص الاتحاد الأوربي عشرات المليارات “لمساعدة أوكرانيا”. ليس لا يبادر الغرب اليوم لتسوية النزاع من خلال القنوات الدبلوماسية فحسب، بل يقف بكل قوته ضد أي محاولة  في هذا الاتجاه. يحاول بكل الطرق ان لا يعطي أي فرصة لروسيا للتراجع. يسعى الناتو اليوم الى ضم فلندا والسويد. يفرض حصار وحشي على سكان روسيا رغم ان هذا الحصار يضر بسكان الدول الغربية بنفس القدر ان لم يكن بقدر أكبر من سكان روسيا.  إذا غضضنا النظر عن الدعاية الحربية للغرب فان أي شخص له نصف عقل يعرف بان أوكرانيا لن تخرج منتصرة من هذه الحرب وان أي إطالة للحرب يعني المزيد من التدمير، والمعاناة والماسي لقاطني أوكرانيا.  من الواضح بان الغرب قد خسر الحرب الاقتصادية ويبدوا انه سيخسر الحرب العسكرية في أوكرانيا وربما سيخسر المعركة السياسية والدعائية أيضا. فسكان اغلب الدول تعي ما يقوم به وتعادي سياساته.

من جهة أخرى، يجب ادانة روسيا بشدة على غلق موانئ أوكرانيا على البحر الأسود ومنع وصول الصادرات الغذائية الأوكرانية الى فقراء العالم وهي تشكل ما يقارب 10 ٪ من صادرات القمح العالمية ، و 14 ٪ من صادرات الذرة وما يقرب من نصف زيت عباد الشمس في العالم.

ولكن لا يمكن للغرب ان يذرف دموع التماسيح على فقراء العالم، بينما يعرقل وصول الصادرات الغذائية الروسية الى الأسواق العالمية والتي تشكل 20% من صادرات القمح  و 13 ٪ من صادرات الشعير، و 3 ٪ من صادرات الذرة  ،  و 30 ٪ من صادرات زيت عباد الشمس العالمية، وتعد روسيا في نفس الوقت اكبر مصدر للغاز الطبيعي والاسمدة الكيمياوية في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط.

بالرغم من التضخم والغلاء والصعوبات التي كانت تعصف برفاهية المليارات بما فيها سكان الدول الغربية، قام الغرب بفرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ على روسيا على امل تدمير حياة الروسيين. يجب ان يكون واضحا بان العقوبات ساهمت في زيادة أكبر في أسعار الوقود والمواد الغذائية والاسمدة الكيماوية من الحرب بأضعاف.

فالقمح والشعير والذرة والزيت هي مصادر غذائية أساسية، تعتمد عليها العديد من الدول النامية لإطعام شعوبها. اكثر من نصف سكان العالم  يأكلون الرز او القمح او الذرة بشكل يومي. فاذا كان بإمكان سكان الدول الغربية التي تصرف ما يقارب من 10% من الدخل المنزلي على الغذاء تحمل أعباء الارتفاع الجنوني في الأسعار، يعني هذا الارتفاع مجاعة بالنسبة لسكان الكثير من البلدان الفقيرة التي تنفق بين 50-90% من الدخل المنزلي على الغذاء.  وتعتمد 45 دولة نامية على القمح القادم من أوكرانيا وروسيا. واستوردت دول مثل مصر والسودان والكونغو والسنغال وتنزانيا ولاوس ودول اخرى بين 65% الى 100% من قمحها من روسيا واكرانيا في 2020 مثلا.  ان وقف صادرات المواد الغذائية، اما يتسبب في نقصها او ارتفاع أسعارها او يخلق مصاعب لوجستية لا يمكن للدول الفقيرة تحملها. فمنذ بداية الوباء لحد الان تضاعف سعر القمح والذرة والاسمدة الكيماوية والغاز الطبيعي وارتفعت أسعار النفط اكثر من 60% وكان للازمة الأوكرانية وخاصة العقوبات الغربية دور كبير في هذه الزيادات في الأسعار. وربما ستشهد أسعار المواد الغذائية المزيد من الارتفاع فقلة وارادت الأسمدة وخاصة الى الدول الفقيرة يعني المزيد من الضعف في الإنتاج الغذائي المحلي والحاجة الى استيراد المزيد من المواد الغذائية من الخارج.

ان الطريقة التي يتصرف بها قادة النظام الرأسمالي هي ليست نتيجة غباء او قلة وعي فحتى تقارير الأمم المتحدث ووكالات الاستخبارات والبنتاغون تشير الى وجود علاقة مباشرة بين ارتفاع أسعار المواد الغذائية وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

ان السياسات والالويات التي يتعقبها قادة هذا النظام التي هي ليست مختلفة عن أولويات البشرية فحسب، بل تساهم في تفاقم الازمات والمشاكل التي تواجه البشرية، تفرضها قوانين هذا النظام الذي هو في طور الافول. لا يمكننا توقع تصرف أكثر انساني وحضاري من قادة أمريكا والاتحاد الأوربي “العالم المتحضر” وهم يحكمون هذا النظام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى