احمد عبد الستارالمقالات

لا زلنا نتعلم الدروس من كومونة باريس

احمد عبد الستار

في 18 اذار ذكرى كومونة باريس عام 1871 انتفاضة عمال باريس التي اطاحت بالنظام البرجوازي الفرنسي، واستولت على السلطة حتى 28 من مايس ودامت سلطتها مدة 72 يوم قبل ان تتكالب عليها كل قوى اوروبا الرجعية والفرنسية وتحطمها تحطيما دمويا قاسيا.

لأول مرة في التاريخ تعلن الطبقة العاملة حكومتها، وتسير الدولة الى “مقاصدها الخاصة”. التنظيم السابق للدولة تحت سلطة الطبقة البرجوازية كان يمر وفق تراتبية واساليب سيطرة تخدم بالنتيجة سلطة رأس المال وتديم وجوده. إلا إن الطبقة العاملة حطمت هذا الشكل من الدولة واستعاضت عنه كما هو معروف بسلطة الجماهير العمالية، عبر اسلوب غاية في النقاء الطبقي يهدف الى تحقيق “السلام والعمل والحرية”، هذه الاهداف المفتقدة تحت سلطة البرجوازية، بحيث بدأت السلطة بشكل مباشر من الاسفل باقتراع عام ومباشر من قبل الجماهير العمالية لاختيار ممثليهم في بلدية باريس، لتكون هيئة عاملة تمثل السلطتين التشريعية والتنفيذية في نفس الوقت، عوضا عن البرلمانات البرجوازية التي هي في حقيقتها مع  الجيش والشرطة والمحاكم والجهاز البيروقراطي الحكومي تألف مجتمعة ادوات قمع بوجه الطبقة العاملة وسائر الشعب الشغيل.

انبثقت للوجود لأول مرة حكومة بقيادة العمال وللعمال انفسهم؛ استجابة لحاجتهم لعالم  بلا برجوازية ولا هيمنة ولا استغلال طبقة لأخرى، هذه الروح الجديدة عبر عنها بيان الاممية الاولى بعد رفض عمال المانيا وفرنسا للحرب الدائرة بين البلدين حينذاك قائلين  “إن الحرب من أجل التفوق أو الحرب لمصلحة أسرة مالكة لا يمكن أن تكون في نظر العمال إلا جنونًا مجرمًا. فنحن نريد السلام والعمل والحرية. ونحن نعلن أن جميع عمال العالم كله هم أصدقاؤنا وأن طغاة العالم كله هم أعداؤنا”.

ووفق هذا المبدأ ولدت المجالس البلدية التي تعتمد نظام الانتخاب المباشر والعلني العام لاختيار الممثلين انطلاقا من المصانع وتجمعات الجماهير العمالية والوحدات السكنية في كل دوائر باريس لتشكيل الكومونة في مقر بلدية باريس واعلانها حكومة تمثل كل الجماهير من الاسفل، كان اغلب النواب من العمال او من ممثليهم اصحاب الافق العمالي، وكان يمكن تغييرهم والغاء تفويضهم في اي وقت متى ما كفوا عن اداء واجبهم تجاه الجماهير التي انتخبتهم، ومن الانجازات التي حققتها كومونة باريس والتي يدين عالم العمال اليها، ادخال نظام عمل جديد على “الشرطة التي كانت حتى ذلك الحين أداة في يد الحكومة المركزية جردت في الحال من جميع وظائفها السياسية وحولت إلى هيئة للكومونة مسؤولة يمكن تبديلها في أي وقت كان… وهكذا كان الحال أيضا بالنسبة لموظفي سائر فروع الإدارة…ومن فوق إلى أسفل، ابتداء من أعضاء الكومونة كان يتعين أداء الخدمة العامة لقاء أجرة تساوي أجرة عامل. وقد أزيلت جميع الامتيازات وعلاوات التمثيل التي كان يتقاضاها كبار موظفي الدولة مع زوال هؤلاء الموظفين… وبعد أن زالت الكومونة الجيش النظامي والشرطة، وهما أداتا الحكم المادي في يد الحكومة القديمة، أخذت في الحال تكسر أداة الاستعباد الروحي، قوة الكهنة… وفقد الموظفون القضائيون استقلالهم الصوري… وأصبح من المترتب عليهم أن يُنتخبوا علنا وأن يكونوا مسؤولين وقابلين للسحب والتغيير”

وبنظر كارل ماركس، وبصرف النظر عما اذا هزمت الكومونة ام لا، تظل درسا ومكسبا عظيما عبر عنها في احدى رسائله مع صديقه كوغلمان قائلا:” بفضل كومونة باريس دخل نضال الطبقة العاملة ضد طبقة الرأسماليين ودولتها في مرحلة جديدة. وأيا كان مآل القضية المباشر هذه المرة، فقد تم الظفر مع ذلك بنقطة انطلاق جديدة ذات اهمية تاريخية عالمية”.

إن كومونة باريس قد اعطت درسا بليغا في كيف تكون سلطة الطبقة العاملة، وكيف تكون الديمقراطية للجماهير العمالية والكادحين، وكيف تغدو الدولة من أداة قمع ولجم الاخرين، الى دولة بكامل مؤسساتها الى صالح الاغلبية العظمى من السكان من اجل تحقيق مصالحها وحماية هذه المصالح الخالية من العبودية.

عندما تتخلص الجماهير من مستعبديها تبرز على الفور روحها الانسانية النقية، الامر الذي دعانا لعقد المقارنة بين الكومونة وانتفاضة تشرين بالعراق، وما يشترك ويختلف بين الانتفاضتين. مثلما تجاوز عمال باريس الحدود القومية التي صنعتها وسهرت البرجوازية لترسخها وهو ما ظهر حقيقةً في بيان الاممية “كون كل العمال في العالم اصدقائنا” تجاوزت انتفاضة تشرين العراقية ونبذت صيحة الطائفية والاثنية، وأظهرت بجلاء كيف تتمتع الجماهير بحس مساواتي بين الجنسين، وهو الامر الذي حدا بالمرأة العراقية للخروج بمليونية خاصة بالنساء مشاركة مع الرجال ومطالبة بحقوقها الخاصة، وسيادة الألفة والتعاون في ساحات الاعتصام بين جميع شرائح المجتمع من سائقي التوك توك والعمال والعاطلين عن العمل والطلبة والمثقفين … كل هذا الى جانب والبسالة والتضحيات الكبيرة التي قدمها شبان الانتفاضة في مواجهة اجهزة الدولة القمعية وادواتها، جانب اخر، يحتل موضع الاشادة والاعجاب بمكان لا يرتقي اليه اي وصف آخر.

ومثلما كان النقص الذي اعترى الكومونة وادها الى هزيمتها رغم بسالتها، نقصها الى حزب ينظمها ويوضح لهم اهدافها بالقضاء على سلطة الرأسمال وبرامج وتكتيكات هذا الهدف، كان نقص انتفاضة تشرين حتى الان الى التنظيم ووضوح الاهداف كذلك.

وما انتاب انتفاضة تشرين من نقص شديد ادى الى بقائها داخل اطر محدودة الى الان افتقارها الى المجالس التي عملت بها الكومونة وأسست حكومتها على اساسه. الدولة سقطت تحت ضربات الانتفاضة وشجاعة المنتفضين ولو تنبه المنتفضون الى ضرورة المجالس وتنفيذها في المحال السكنية والمصانع والجامعات، لكان الان وضع الانتفاضة في وضع دولة بديلة عن هذا النظام، الجماهير انتصرت واسقطت الدولة في بغداد وفي معظم المدن الجنوبية، ولو نظمت انفسها على طريقة المجالس البلدية في باريس لكان الحكم الان بين ايدهم، خصوصا اذا كانوا قد استعانوا بتنظيم استلهم دروس كومونة باريس وكان قادرا على توضيح اهداف الطبقة العاملة والجماهير الكادحة والعاطلين والمرأة المتطلعة لكرامتها والشباب الى رسم حياة ومستقبل لائق بهم.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى